مصطفى المنوزي *
لسنا مضطررين لتكرار مسلمات وبديهيات مبدئية ، بأننا ضد الإستعمار والإستبداد اينما كان ، فهذا عنوان وجودنا ، وبالتالي لسنا في حاجة إلى من يذكرنا بخياراتنا الإستراتجية وإختلافتنا وتناقضاتنا مع الخصوم والأعداء والحلفاء الموضوعيين أو المفترضين حتى ! ، ولذاك فإن كل تحليلاتنا تهم الممارسة دون المساس بالمبدأ ، معتمدين على التفكير النقدي التوقعي .
حقا أن التضامن المغربي مع القضية الفلسطينية يتميز ويمتاز بحماس وجداني كبير، لكن لضمان استمراريته وتأثيره الفعلي، يحتاج إلى تحوّل نحو تضامن عقلاني، نقدي، وتوقعي ؛ وأول الخطو توسيع النقاش حول أشكال التضامن مع كافة الفلسطينيين المتمسكين بتحرر وطنهم وعلى صعيد التراب الفلسطينين دون مفاضلة أو تمييز بين التعبيرات السياسية والإجتماعية والحقوقية للشعب الفلسطيني ، ولأن المطلب الأصلي أي شرعية التحرر انتقل بحكم التحولات وموازين القوة العالمية إلى حق المقاومة ، فإن التضامن الجدي ينبغي أن يقترن بحق التتبع وتقييم الأثر والكلفة ، دون التدخل في صناعة القرار الفلسطيني ، رغم تعدديته ، ودون المساس بإستقلاليته ، وهو ما يسمى بالتضامن النقدي ، خاصة بالنسبة للشعوب التي تخصص جزء كبيرا من زمنها النضالي ومساحة شاسعة من فضاءاتها العمومية لأجل نصرة القضايا العادلة في العالم ، ومن بينها القضية الفلسطينية كقضية وطنية ؛ ولأن لما يجري أثر على المصير الوطني ضمن التحولات الجيوستراتيجية ؛ فإن خيار التضامن ينبغي أن يستند على التفكير النقدي التوقعي بالأساس ، أي أن تكون الرؤية الإستشرافية تشاركية ما دامت النتائج ستنعكس على خريطة التحالفات والأولويات ، وسوف تؤثر على المصالح والحقوق لدى الشعوب . فالصراع ليس مقدّراً أن يستمر إلى الأبد، لكن تغييره يحتاج إلى كسر حلقات السرديات المتصارعة وبناء لغة جديدة تقوم على العدالة لا الهيمنة ، فكم من دعم تؤطره إلحاقية ، وكم من تضامن يولد ذيلية ، وما أفظع التضامن الوجداني اللامشروط والذي يتحول إلى تضامم خاصة على مستوى تحمل أعطاب الهزيمة أو الإنخراط في حروب مفتوحة ومجهولة الأفق ، لا تقل وقعا من واقعة التطبيع كأمر واقع ، والتي إذا لم نفرض على مسؤولينا أن يضغطوا به ( كورقة يحتمي بها النظام أمنيا على الخصوص ) لحل المعضلة الفلسطينية بشكل منصف وعادل ؛ فإننا سنعاني مع مخطط الصهينة المتصاعد منسوب تفعيله ، فنسقط ضحية لأصوليتين متناحرتين ، تؤطرهما معا السردية الدينية والسردية الأمنية ، وبذلك نفقد مشروعية الحرية بإسم شرعية الهوية ؛ في ظل نظام سياسي يتكيف ولا يتحول ، وفي ظل حركة تقدمية فقدت بريقها منذ سقوط جدار برلين ، وتاهت بوصلتها التحررية والتقدمية ، وتماهت لديها إشكاليات الهوية الحزبية والحريات الفردية مع الجماعية ، والحال أن الهوية من دون حرية تؤدي إلى الاستبداد ، والحرية من دون هوية قد تولد انفصالاً عن الواقع المجتمعي ، ليظل التحدي الأكبر هو بناء سرديات تدمج الهوية والحرية دون إلغاء أحدهما، عبر حوار نقدي وتشريعات متوازنة ، أما السؤال الأعمق الذي يتم تفادي طرحه بالإنغماس في تحالفات غير طبيعية : هل يمكن أن تصبح الهوية مصدراً للتحرر بدلاً من أن تكون قيداً ؟
إن الإجابة تعتمد على كيف تُعاد صياغة هذه السرديات في كل سياق ، عبر السؤال الانطولوجي ما نحن ؟ ( وليس من نحن ؟ ) وكيف نريد ؟ ( وليس ماذا نريد ؟ ) ، وبذلك نؤسس معا لسردية ثالثة تهم قضية العدالة وحقوق إنسان، حيث تربط تحرر فلسطين بتحرر الشعوب العربية من الاستبداد والتبعية.
فمتى يقدم اليسار المغربي نقدا ذاتيا ويعود إلى إبداع وسائل تبلور النظرة الاستشرافية التي تربط تحرر فلسطين بتحرر الشعوب العربية من الاستبداد والتبعية كمسار ضروري ، لأنه لا يمكن أن نغفل عن حقيقة أن المصير الوطني الفلسطيني يرتبط بشكل وثيق بالمصير العربي العام، وأن تضامننا يجب أن يعكس هذه الرؤية الشاملة والعقلانية. والتي لا سوى العمل على عقلنة التضامن وتحويله إلى نموذج مستدام يحتاج إلى إطار نظري وجامع يُؤَسَّس على التفكير النقدي والاستشرافي، ويأخذ بعين الاعتبار التحولات المستقبلية والتحديات الإقليمية والدولية، مع التأكيد على أن التضامن الفعّال لا يكون عاطفيًا بل يستند إلى مسارات استراتيجية وواقعية لتحقيق العدالة والتنمية المواطِنة والمستدامة ، وترسيخ الديموقراطيات العامة والداخلية ؟
*منسق دينامية ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية