إدريس حدادي
لا سبيل للحد من أخطار التوتر الذي يهدد العلاقات الدولية بعد إقدام روسيا على قصف مدن أوكرانية بل وتعدت إلى دخول أراضيها عسكريا. إلا أنه بالعودة إلى الحوار العالمي على جميع المستويات، واعتماد وسيلة وحيدة لفك النزاعات، واستبعاد حل المشاكل بقوة الحديد والنار، والتقاء الدبلوماسيات العالمية على كلمة سواء تتلخص في العودة إلى فرض احترام المبادئ التي أقرتها الأمم المتحدة وأغنتها بمواثيقها، وحمل الدول المتمردة على مبادئها على الخضوع إليها والتقيد بأخلاقياتها وخاصة إسرائيل التي تشكل حالة خاصة وفريدة من نوعها لكونها لا تعترف بوجود المنظمة وها هي روسيا هي الأخرى تدوس بأقدامها جميع مقرراتها. هذا يتطلب من الدبلوماسية العالمية حركية غير عادية بأساليب جديدة، يأتي في طليعتها اعتماد الدبلوماسية الوقائية، من حظر للأسلحة النووية لتفادي الخطر الكوني. لأن الدول التي تمتلك هذا السلاح يدفعها إلى الغطرسة والثقة المفرطة بالنفس، بدون أن يستفيد أحد من دروس التاريخ، أهمها الحرب العالمية الأولى والثانية، ولا أحد يتعلم من المعاناة أو على حد قوله تعالى: “ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون”. فهل الحرب الروسية على أوكرانيا قد تؤدي بالإمبريالية الأمريكية في لحظة من لحظات هذا القرن؟
المثير في هذه المرحلة حقيقة أنه وربما في مرات نادرة في التاريخ، يحدث أن الأطراف الصاعدة أو المنافسة تريد ما يريده القطب الأقوى المنسحب بإرادته أو بفعل الزمن وتوازنات القوة. نرى الآن آسيا ممثلة في روسيا والصين والهند ودول الاتحاد الأوربي كلها تريد ما تريده أمريكا، وهذا ما تعمل عليه كل دولة لتؤمن لها مكانة لائقة في المجتمع الدولي.
وفي هذا الشأن نرى أن الأعمدة الثلاثة للإمبراطورية، كما عرفها جوزيف ناي، وهي القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والقوة الإيديولوجية، جميعها ظهرت عليها في الآونة الأخيرة علامات ضعف بالمقارنة بمثيلاتها في الدول الصاعدة، بمعنى أنها تبدو أضعف نسبيا بفعل استمرار صعود مؤشرات القوة في هذه الدول، حتى وإن استمرت مؤشرات القوة الأمريكية متصاعدة في الأجل المنظور.
رغم أننا ما زلنا نقرأ العبارة البليغة التي تقول: أمريكا قوية إلى درجة أنها ما زالت القوة التي تضع أجندة العالم وضعيفة إلى درجة أنها لم تعد قادرة على تنفيذ هذه الأجندة، أما الآخرون فهم أقوياء إلى درجة أنهم قادرون على منع أمريكا من تنفيذ أجندتها للعالم، وضعفاء إلى درجة أنهم ما زالوا غير قادرين على وضع أجندة بديلة. إنها العبارة التي توجز بامتياز حالة القوة في عالم اليوم.
ولا شك أن بعض التفسيرات لتراجع أمريكا مثير للجدل، إذ نرى أن تراكم الثروة في آسيا فاق كل التوقعات، وخير دليل القفزة النوعية للاقتصاد الصيني في عصر كورونا على حساب باقي الدول وهي التي تقف جنبا إلى جنب مع روسيا في حربها على أوكرانيا، والثروة حسب المفكرين، هي مادة التاريخ وموضوعه الأهم ولا يحصل تقدم أو انتشار حضاري وثقافي من دونها.
وإذا كان التدخل الروسي في أوكرانيا إلا سببا لحماية أمنها القومي لأن إجراءات حلف الناتو بتكثيف قواته على الحدود الأوكرانية تعتبر تهديدا صريحا لأمن روسيا، وتغييرا استفزازيا للوضع القائم.
وإذا كانت روسيا ترى ضرورة توجيه ضربة موجعة لجارتها أوكرانيا، فإن الرئيس الأمريكي بايدن ورؤساء بعض الدول اكتفوا بفرض جملة من العقوبات على روسيا، ووضع قوات حلف الناتو في حالة استعداد مع تقديم دفوعات عسكرية جديدة في اتجاه روسيا. ليتيح في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ العالم فرصة للمفاوضات والتفاهم وهذا ما بدا جليا من طرف أمريكا وألمانيا وفرنسا والمملكة العربية السعودية وآخرها إسرائيل وفي الوقت ذاته أعطت روسيا لأمريكا إشارات تتعلق بمشروعات روسية مرتقبة لإنزال طائرات روسية على التراب الأوكراني.
أمام هذه الإنذارات والتهديدات، وتجنبا للدخول في نزاع متصاعد قد ينتهي بالتدمير الشامل المتبادل، أمر الرئيس التركي بوقف السفن الروسية في المياه التركية حتى لا تدخل منطقة الاعتراض الناتو.
لقد أثبتت معظم الأزمات الدولية التي ميزت فترة الحرب الباردة، سواء منها تلك التي اقتصر مداها على التهديد المتبادل، أو تلك التي تحولت إلى صراعات مكشوفة، أن الدولتين العظميين كانتا حريصتين على إبقاء التنافس بينهما محصورا، بحيث لا يصل إلى المواجهة العسكرية الشاملة التي ستؤدي إلى حرب عالمية جديدة.