إدريس عدار
اختار وليد الركراكي أن يكون مغربيا. وليد بدون صفة لأن اسمه كقائد للأسود مدون بكل لغات العالم. فئة نادرة اختارت هذا الانتماء أما بالنسبة للباقي فهو أصلي وغير مكتسب. لو أراد لكان فرنسيا. ولد هناك ونما وترعرع وشب وكوّن مساره الرياضي مع فرق هذا البلد الأوروبي. جاء لقيادة المنتخب في ظروف مليئة بالالتباس. استطاع في ظرف وجيز أن يصنع هذه التحفة الجميلة التي شاهدناها في مونديال قطر.
أبان عن ملكات كبيرة ليست في تقنيات كرة القدم فقط ولكن أيضا في التواصل. فرض نفسه حتى بقلب الشتيمة إلى “لغة خطاب”. خصومه أطلقوا عليه “راس لافوكا” لما كان مدربا لأحد الفرق المحلية. حوّل الأمر إلى أداة دفع وتشجيع للاعبين، إلى درجة أن موقع الفيفا نزل “سوقيا” ليقتني هذه الفاكهة ويضعها جنب صورة للركراكي. وجعل من مفردات عتيقة عنصرا أساسيا من التداول اليومي. أطلق عليه البعض “مول النية”.
رجل غارق في القيم المحلية. النية، رضى الوالدين، إلى بغا الله تضرب في البارة وترجع. منفتح على العالم من خلال لغاته الحية. صنف غير مقبول لأنه “نية”. النية هنا لا تعني “السذاجة” ولكن تعني الصدق. تعني خروج الإرادة من القوة إلى الفعل. الإرادة الكامنة وسط كثير من المغاربة أفصح عنها هذا الوليد. وفي بعض معاني العربية يحمل “وليد” معاني العفوية والخدمة والرجولة.
كسر صنما كان يعبد من غير الله. صنم اسمه تفوق الغرب. هو مولود في هذا الغرب واختار أن يكون مغربيا. أسقط الهالة التي كانت لمنتخبات كثيرة. أسقط بلجيكا وإسبانيا والبرتغال.
أعجني كثيرا أن يعتذر وليد الركراكي للمغاربة لأنه لم يحقق الأكثر. نحن من يجب أن نعتذر له عما فعل “السفهاء منا” خلال مباراة المنتخب الوطني مع نظيره الفرنسي. هو ليس “نية”، كما يوحي بها التداول اليومي، حتى لا يعرف أن كثيرا من الضباب الكثيف أحاط بهذه المقابلة. شاهد الجميع “بوس” الفيفا كيف عبّر عن غضبه لما مر المنتخب المغربي إلى النصف. يعرف وليد أن شروط اللعب الرياضي كانت منعدمة. ومتى كانت كذلك؟
خلقت بريطانيا كرة القدم لإلهاء شعوب المستعمرات. هاته الشعوب حاربت الغازي بكل أدواته. سرقت منه اللعبة وحولتها إلى رياضة شعبية. بقيت شعبية غير أنها من أكبر الأعمال التجارية في العالم.
الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو له كتاب بعنوان “كرة القدم بين الشمس والظل”. يرصد فيه توظيف اللعبة. استهله بالقول “تاريخ كرة القدم ھو رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب. فكلما تحولت ھذه الرياضة إلى صناعة، كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب. وفـي عالم نھاية قرننا ھذا، تستنكر كرة القدم الاحترافـية ما ھو غير مفـيد، وما ھو غير مفـيد فـي عرفھا ھو كل ما لا يعود بالربح. وليس ھناك أية أرباح تجنى حين يتحول الرجل، لبرھة، إلى طفل، يلعب بالكرة مثلما يلعب الطفل بالبالون ومثلما تلعب القطة بكبة خيوط”.
لكن أن تنتمي لعالم الكبار في الكرة لا يعني “أنك قطعت الواد ونشفو رجليك”. هل أنت قابل لكي تكون علامة تجارية؟ سيكون حضورك ثقيلا عليهم لأنك لست سلعة. أكثر من ذلك أنت الذي عشت في فرنسا وجلبت لاعبين بعضهم ينطق بالكاد كلمات بالعربية مصرون على تجسيد القيم المحلية. من سمح لكم كي تقولوا للغرب احتفظ بقيمك لنفسك؟ لسنا مثلك حتى وإن حملنا بطاقاتك وجوازاتك؟ حتى لو كنت في وزن أبطالهم سيحرقونك ويذرون رمادك في الهواء. التجارة هنا مرتبطة بالتشييء والتسليع والانحطاط بالفطرة. لسنا وحدنا من يزعج هذا الغرب. روسيا تقول اليوم إنها تدافع عن “الفطرة السليمة”. الحزب الشيوعي الصيني وضع خطة لمواجهة الغزو الثقافي الغربي.
أنت أيها الوليد أخرجت الإرادة الكامنة من أجل الوجود. كي لا نبقى في دائرة النسيان. الحلم حق. من حقك ومن حق اللاعبين ومن حقنا أن نحدث أنفسنا وأن نعلن أيضا رغبتنا في الحصول على الكأس. لكن حقيقة الكأس رشفة مرة اسمها عالم “السلع”. اعترف الرئيس السابق للفيفا جوزيف بلاتير بأنهم كانوا يجتمعون لتحديد من يفوز بالكأس. بل حتى المشاركة في الأدوار المختلفة لها قيمتها. لن يستفيد هؤلاء من وصول كوكبة الركراكي إلى النصف، ولهذا انزعج إنفاتينو. يقول من يفهم اللعبة: المغرب خسّر ليهم لافيش.
لن يعترفوا بأحد من الجنوب حتى لو كان من فرق تعتبر كبيرة بالعودة إلى غاليانو نقرأ “صار مارادونا فـي نابولي القديس مارادونا، وتحول القديس جينارو إلى القديس جينارماندو. وصارت تباع فـي الشوارع صور الإله ذي السروال القصير، مضاءة بتاج السيدة العذراء أو ملفوفة بعباءة القديس الذي ينزف كل ستة شھور، وكانت تباع كذلك توابيت لأندية الشمال الإيطالي، وقوارير مملوءة بدموع سيلفـيو بيرلوسكوني. وكان الأطفال والكلاب يظھرون بشعور مستعارة مثل شعر مارادونا”.
ماذا حدث بعد “ففـي مونديال 1990، كانت غالبية الجمھور تعاقب مارادونا بالصفـير الساخط كلما لمس الكرة، وقد احتفلت إيطاليا بھزيمة الأرجنتين أمام ألمانيا وكأنھا انتصار إيطالي. وبينما ھو أسير المدينة التي تعبده، وأسير الكامورا، المافـيا التي تتحكم بالمدينة، صار يلعب بدون قلب، وبدون قدم؛ وعندئذ انفجرت فضيحة الكوكايين. وتحول مارادونا فجأة إلى ماراكوكا، وإلى جانح أوھم الناس بأنه بطل”.
البطولة لا يجوز في عرفهم أن تكون جنوبية. ولا يتوهمن أحد وصل إلى مسؤولية الفيفا أنه سيكون في كواليس التدليس. “جذبة” الركراكي في حضرة “ديرو النية” قد تكون بداية مقاومة طويلة تحقق التوازن لعالم يسمى الجنوب يريد أن يكون شريكا في صناعة القرار.
كل هذا الإصرار على القيم المحلية والإيمان بالمحلي لن يجد صداه فيما هو محلي، حيث يبدأ العسف من “هنا والآن” إذ لا يشرك اللاعب والمدرب في صناعة القرار. ما قام به الوليد الركراكي شجاعة عليها سيقاس كل فعل جماعي كي يكون عائده جماعيا، كما أنه نموذج لمقاومات الجنوب للشمال غير المعترف بنا.