محمد فارس
هذا كلامُ عملاق من عمالقة الفلسفة والفكر، مصنَّفٌ من بين الخالدين مائة فمَن هو؟ إنّه [جون لوك: 1632 ــ 1704]، ومن فلسفته في السياسة، صيغَ الدستورُ الأمريكي، رغمَ أنّ [لوك] إنجليزي، وأمّا الكتابُ الذي جعل منه فيلسوفًا شهيرًا فهو [مقال الفهم الإنساني] وكانت وجهاتُ نظرِ [لوك] تجريبية، وكان متأثِّرًا في تفكيره باثنين من الفلاسفة: [الإنجليزي فرانسيس بيكون، والفرنسي رونيه ديكارت]، وقد أثّرت فلسفتُه في كلٍّ من [باركلي] و[دايڤيد هيوم] و[إيمانويل كانت]، لكنْ من أخطر مؤلّفاتِه الفلسفية، كتابُه [بحثان عن الحكومة]، وفي هذا الكتاب، يُرسي قواعدَه الأساسية للدّيموقراطية الدّستورية، وهو يؤمن إيمانًا قاطعًا بأنّ كلّ إنسان له حقوق طبيعية، وأنّ هذه الحقوق ليست في أن يعيش فقط، وإنّما أن يكون حرّا، وأن تكون له مِلكية خاصة، وأعلن [لوك] صراحةً أنّ وظيفةَ الحكومة هي حماية المواطن وحياته وحرّيته وحقوقه، وقد أطلقَ على هذه النّظرية اسم [حكومة الحِراسة اللّيلية لِلشّعب]؛ دعْنا أولاً نحدِّد مفهومَ الحكومة لتتّضحَ الأمورُ أكثر للقرّاء، ليتبيّنوا إنْ كانت لهم حكومةٌ بهذا المعنى، ثم الحُكْم لهم ولا حُكْم غيره في هذا الباب..
فما هي الحكومةُ يتساءلُ القارئُ الكريم؟ أصْل الحكومة ردُّ الرَّجل عن الظّلم؛ والحكومةُ في اصطلاح الفلاسفة الإدارةُ، والتّدبير، والتّوجيه، كإدارة الأعمال، وتدبير شؤون الدّولة، وتوجيه سياستها بما يرضي الشّعب، وهذا المعنى مأخوذٌ من توجيه الرُّبان لدفّة السّفينة وركّابُها هم المواطنون، وللحكومة معْنَيان: أحدُهما مشخّص والآخر مجرَّد، فأمّا الحكومة بمعناها المشخّص، فهي المؤلّفة من الأفراد الذين يقومون بتدبير شؤون الدّولة مثل السّيد [أخنوش] رئيسُ الحكومة، والوزراء مثْل وزير الدّاخلية، ووزير الصّحة، ووزير التّعليم، ووزير العدل، وهلمّ جرا، وسائر الموظّفين وتُسمّى هذه الهيئة بالسّلطة التنفيذية، وهي ليست تشريعية، وفي قول [مونتسكيو]: الحكوماتُ ثلاثة أنواع: الحكومة الملَكِية، والحكومة الاستبدادية، والحكومة الجمهورية، فأيُّ حكومة تراها الآن تدير شؤونَنا، وتفي بوعودها لنا، وتحمي حرّيتنا، وتصون حقوقنا، وتَحفظ كرامتنا؟ فهل هذه الحكومة ملَكيةٌ دستورية؟ الجواب: كلاّ! فهي لا تَحترم الدّستور إطلاقًا.. هل هي حكومة استبدادية؟ الجواب: نعم! بل أكثر من ذلك، فهي حكومة [بلوتُوقراطية] مشكَّلة من عبدَة المال ومن المهَرْوِلين نحو المناصب..
وإليكم الآن بيانَ ذلك على ضوء ما نلاحظه من ممارسات استبدادية مخالفة للدّيمقراطية: فوزارة الدّاخلية مثلاً تراها تَربط الحصولَ على أية وثيقةٍ يضْمنها الدّستورُ للـمُواطن ويؤدّي واجبات نقدية، ترى وزارة الدّاخلية قد ربطَت الحصولَ على هذه الوثائق بالتّوفر على جواز التّلقيح الذي عطَّلَ مصالح المواطنين ممّا يذكِّر بسياسة الكنيسة في القرون الوسطى أيّام محاكم التّفتيش.. أمّا وزارة الصِّحة، فَلِوَهَنِها وافتقارِها للصّحة، فإنّها صارت المستبدّ الأكبر، فهي تُلزم المواطنين بجواز التّلقيح، وتُهْمِل المرضى وتَمنعهم من ولوج المستشفيات وتَتركهم يعانون في الشّارع وكأنّ الأمر لا يعنيها، أما حالةُ المستشفيات، فمتردّية ومنحطَّة إلى أقصى الحدود.. نأتي الآن للحديث عن وزارة التعليم، فنجدها اتّخذتْ قرارًا بمنع من تتعدّى أعمارهُم (30) سنة من ولوج ميدان التّربية والتّعليم، وخلقتْ فيروسًا قاتلاً أصاب جيلاً كاملاً من أبناء الوطن، وما زالت تخْبِط خبْطَ عشواء بخصوص الامتحانات عن بُعْد ونَزل بالتعليم أسفل سافلين.. بقي الحديثُ عن وزارة العدل التي شلّتْ نشاطَ المحاكم بفرضها جوازَ التلقيح على الـمُحامين، وكافّة رجال القانون في هذا البلد، أليس الأجدرُ بهؤلاء الوزراء أن يُعْزلُوا قانونًا ومنطقًا من مناصبهم؟!
فهذه الحكومة استبداديةٌ لا شكَّ في ذلك، ولولا أنّ الملكيةَ هي التي تُفَرْمِلها، لَعاثتْ في البلاد فسادًا.. فالحكومةُ بالمعنى المجرّد هي فنُّ الإدارة والتّدبير كما في قولنا: الأصلُ في الحكومة تحقيقُ مطالب الشّعب، ورعايةُ مصالح المواطنين، وحفظُ حقوقهم، وكما يقول [مونتسكيو]: [كلّما كانتِ الحكومةُ أكثر ملاءمةً لمنازع الشّعب، كانت إلى طبائع الأشياء أقرب]؛ فماذا حقّقت هذه الحكومةُ منذ أن كبَستْ على أنفاسنا، وصارتْ تهدِّدُنا بِمنعنا من حقوقنا ومحاربة حرّيتنا والعبث بمصادر أقواتنا، فألهبت الأسعار، واستهدفت جيوبَ المواطنين وصارت تبحث حتى عن نوعية (التّقاشر) التي يرتديها المواطنُ، وتريد أن تعلَم ما يرتديه من ملابسَ داخلية بدلاً من البحث في مشاكله وما يقاسيه، ولكن هذا ليس بمقدور حكومة [بلوتُقْراطية] وهي الحكْمُ على أساس الغِنى والثّروة، وهؤلاء لا تعنيهم إلاّ الثّروة وجمعُها من أيِّ سبيل دون رعاية لأيّ مبدإ أو عاطفة شريفة، يساندهم في ذلك كثرةُ الأحزاب وهي كثرةٌ تحطّم الأمّةَ وتخلقُ الهزاهز والفتن، وقد رأيت كيف توالتِ الاضطرابات منذ تنصيب هذه الحكومة البلوتقراطية.. وبالعودة إلى [جونْ لوك] سألناه عن حكومة مستبدّة ترفُض أن تستجيب لرغبات الشّعب، فأجاب بأنّه يكون للشّعب الحقُّ في الاحتجاج والتّظاهر بكلّ طريقة سِلْمية.. فسألناه: وإذا لم تُفْلحْ هذه الاحتجاجات وكانت دون فائدة بعد كلِّ الطّرق السّلمية، فكان له جوابٌ لن أكتبَه لأسباب وجيهة، فمعذرة! وصدق الشّاعرُ حين أنشد: [لا تَعْجبوا لِلظّلمِ يَغْشَى أُمّةً * فتبوءُ منه بفادحِ الأثقال] ذاك هو حالُنا، ذاك هو واقعُنا للأسف الشّديد!