في أحد أيام عمّان الهادئة، لفظ سائق التاكسي “أبو النسيم” أنفاسه الأخيرة أمام محل قهوة في شارع الأمير محمد.
كان قد توقف لبضع دقائق من العمل ليستريح، لكن الجلطة الدماغية لم تمهله. رحل الرجل الستيني على رأس عمله، مثل آلافٍ غيره يواصلون العمل رغم شيخوختهم، فقط لأنهم لا يملكون بديلًا.
غياب نظام تقاعدي شامل للفئات العاملة خارج القطاع العام والمنظم يُجبر كثيرين على الاستمرار في العمل حتى الإنهاك أو الوفاة.
فالمساعدات الاجتماعية لا تكفي، والضمان الاجتماعي اختياري لمن لا يعمل ضمن شركات مُلزمة بالاشتراك.
في المكان نفسه الذي توفي فيه أبو النسيم، يجتمع سائقون تجاوزوا الستين. من بينهم عبدالله الرنتيسي، المعروف بـ”أبو أحمد”، الذي بدأ يومه في الخامسة فجرًا وما زال يواصل عمله عند العصر.
جسده المثقل بآلام الظهر والسكري وارتفاع ضغط الدم لا يمنحه رفاهية التوقف. يستغل محل القهوة للاستراحة، يتناول وجبة بسيطة، يأخذ دواءه، ثم يواصل القيادة حتى منتصف الليل، ليجمع ما يكفي لدفع إيجار السيارة وتأمين الحد الأدنى لعائلته.
حكاية أبو أحمد تسير على خط زمني من الإرهاق؛ من عمله في مصانع الزرقاء في شبابه، إلى سفريات بغداد في التسعينيات، ثم سائق تاكسي بنظام الضمان اليومي.
إصابة في 2016 أطاحت به أرضًا بعد 12 ساعة عمل، وقضى عشرة أشهر طريح الفراش. رغم تحذير الأطباء، عاد للعمل مدفوعًا بغياب شبكة أمان اجتماعي.
يعتمد أبو أحمد على المسكنات ومضادات حيوية غير موصوفة أحيانًا، ليقاوم أعراض التقدم في السن. لكنه لم يستطع مقاومة أثر مرض السكري الذي تسبب في حرق قدمه.
ساعده أهل الخير في العلاج، فعاد مجددًا إلى الشارع، منتظرًا نهايته بين خيارين: الموت أثناء العمل أو العجز في المنزل تحت رحمة المساعدات.
ويُقدر أن أكثر من نصف العاملين في القطاع الخاص الأردني خارج مظلة الضمان الاجتماعي، وهو ما يتركهم عرضة للهشاشة الاقتصادية عند الكبر، خصوصًا في ظل غياب دور نقابي فاعل.
أما أبو شادي، العامل السابق في قطاع البناء، فبعد عقود من العمل الشاق في القصارة، أنهك الجسد.
رغم اشتراكه في الضمان خلال فترة عمله بشركات الإنشاءات، إلا أن عمله لحسابه لاحقًا تركه دون تغطية.
اليوم يعمل بجهد أقل، في صيانة خفيفة، أو يبيع الفاكهة الموسمية، رافضًا الاعتماد الكامل على أولاده وبناته الذين يساهمون في مصاريفه، لكنه يصر: “ما بدي أمد إيدي لحدا، حتى لو صار عمري 100”.
الحال لا تختلف كثيرًا عند “أم لمى”، التي تعمل سائقة على سيارة العائلة. بعد سنوات من العمل في التجميل والخياطة، انحدرت أوضاع الأسرة بعد مرض زوجها. لم تتمكن من الاشتراك في الضمان بسبب ضعف الدخل وكبر سنها، فوجدت نفسها تعيل الأسرة بمردود لا يتجاوز 300 دينار. تقود يوميًا رغم آلام الظهر وضعف البصر، ولا ترى أمامها خيارًا سوى مواصلة العمل.
ورغم التعب، تجد في عملها جانبًا مشرقًا، كما تقول: رؤية وجوه الناس يمنحها شعورًا بأنها لا تزال قادرة على العطاء، حتى لو كان الثمن ألمًا صامتًا كل مساء.
هذه القصص لا تمثل حالات فردية، بل واقعًا يوميًا لفئة كبيرة من الأردنيين ممن أفنوا أعمارهم في أعمال شاقة دون أن يؤمنوا مستقبلهم.
غياب التغطية الشاملة للضمان الاجتماعي عن العاملين لحسابهم أو في القطاع غير المنظم يعمّق الفجوة الاجتماعية، ويدفع كبار السن للعمل حتى آخر رمق.
ربما آن الأوان لإعادة النظر في بنية الحماية الاجتماعية، وضمان حق الكرامة في شيخوخة لا تعتمد على الصدفة أو الإحسان، بل على سياسة عادلة تحفظ ما تبقى من قوة الإنسان.