محمد فارس
كان [نيكتا خروتْشوڤ] في عطلة في [الدَّاتْشا] الخاصة به في شبه جزيرة [القرم] على البحر الأسود، وكان بصحبته دبلوماسي روسي، فكان [خروتْشوڤ] كل مرّة يأخذ المنظار، وينظر إلى البحر الأسود، فاعتقد الدبلوماسي أن الأمْر لا يعدو أن يكون دعابة من الدعابات التي عُرِف بها [خروتْشوڤْ] وهو الرجل الـمِضْحاك الذي يحبّ النكات والمستملحات، فسأله الدبلوماسي عن سبب استعمال المنظار، فأجاب [خروتْشوڤ] بأنه يرى صواريخ أمريكية منصوبة في الحدود التّركية وموجّهة نحو [روسيا]، فظنّ الدبلوماسي أن [خروتْشوڤ] يمزح، فيما كان الرجل يعبِّر عما يختلج في صدره، ويجول في ذهنه؛ وبعد ستة أشهر، يعني يوم (14 أكتوبر 1962) أخذت طائرةُ استطلاع أمريكية صورًا لما بَدَا أنّه جذوع أشجار في [كوبا] مغطّاة وسط الغابة؛ فحصَ المدعو [لونْدال] وهو خبيرٌ في تحليل الصّور، فهرع مسرعًا إلى [البيت الأبيض]، وأخبر الرئيس [كينيدي] بكارثة على وَشْك أن تحدث، وأراه الصّور، وأخبره بأنها صواريخ نووية منْصوبة في [كوبا]؛ فسأله [كينيدي]: هل أنت متيقّن؟ أجاب: نعم، سيدي الرئيس، أنا متيقن مثلي مثْل أي خبير في تحليل الصّور].. وفي يوم (22 أكتوبر 1962)، خاطب الرئيس الأمريكي شعبه، واهتزّ العالم للخبر، وصار على حافة حرب عالمية ثالثة؛ وبعد أزمة خطيرة، اضطرّ [خروتْشوڤ] لسَحْب صواريخه من [كوبا] مقابل وَعْد بعدم اجتياح [كوبا]، وسُحِبَتِ الصواريخ الأمريكية على الحدود التّركية، ولكنّ الروس رأوا أن ذلك كان هزيمةً مذلّة، وبعد أشهر عُزِل [خروتْشوڤ] من منصبه، ووُضِعَ تحت الإقامة الجبرية حتى مات، وظلّت [كوبا] مسجونة..
قد يسألني القارئ الكريم عن سبب ذِكر هذه القصة التاريخية، وجوابي هو: كيف تصرّفت [أمريكا] عندما تعلّق الأمر بأمنها القومي بسبب تواجُد صواريخ روسية في [كوبا] التي تبعد بِـ(80) كيلومترا عن الأراضي الأمريكية، وكيف تتصرف الآن عندما تعلق الأمرُ بالأمن القومي الروسي بسبب زحْف حِلف الناتو نحو [أوكرانيا] التي لها حدودٌ مشتركة مع [روسيا]؛ والسّؤال هو: هلِ الأمنُ القومي الأمريكي أهمُّ من الأمن القومي الروسي؟ فإذا كانت [أوروبا] الغربية تعاني من [الرُّوسوفوبيا]، فإن [روسيا] هي كذلك تعاني من [النّاتوفوبيا] و[الناتو] يتمطّط نحْوها عن طريق [أوكرانيا] التي تطالب بالانضمام لحلف [النّاتو] وللاتّحاد الأوروبي، وهو ما لا تقْبل به [روسيا] إطلاقًا، تمامًا كما لم تقبل [أمريكا] بأن تكونَ قاعدة للمدّ الرّوسي على مقربة من أراضيها.. كلنا نعلم الاستفزازات الأوكرانية ممّا جعل [روسيا] تملّ من ضبط النّفس، ومن السكوت عن ممارسات [أوكرانيا] التي كانت تعوِّل كثيرًا على [الناتو] وعلى [أمريكا] لمواجهة [روسيا]، لكنّ الجميع خذَلها وقت الشّدة.. فلو كان في [أوكرانيا] حُكماء وسياسيون أكفاء، لكانت لهم سياسة متوازنة وحكيمة تجاه هذا الوضع الذي ينذر بالانفجار، ولكنّ [أوكرانيا] صارت لها حكومة، على رأْسها رئيس كان مجرّد مُهرّج تلفزيوني إلى جانب كونه صهْيونيًا هنّأ [إسرائيل] على ما فعلتْه بقطاع [غزّة] وبالأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يُشبِه ما تعانيه اليوم [أُوكرانيا] من شتات، وفرار، وتشرُّد، ومآسٍ.. كانت [أوكرانيا] عبر التاريخ بمثابة [الزّائِدَة الدَّوْدية] بالنسبة إلى [روسيا]، وهو ما جعل فيلسوفًا روسيًا بارزًا [أليكساندر دوجين] يقول: [إنّ الحربَ ضدّ (أوكرانيا) ستصبح ضرورةً]..
لكن السّؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا تصرّ [أوكرانيا] على أن تكون موالية لأوروبا بدلاً من أن تكون موالية لروسيا؟ فروسيا دولة عريقة، ودولة علوم وتكنولوجيا، وذات تاريخ عريق، أَعْرق من تاريخ [أمريكا] التي قامت دولتُها على القتل، والإبادة في حق الهنود الحمر، فصارت دولةً عنصرية واستعمارية، فهي ليست دولة ديمقراطية كما تدّعي، وهو ما يعترِف به حتى فلاسفتُها ومؤرّخوها، كما تتلاعب بقضايا عدّة دول عبر العالم، وحطّمت ديمقراطيات ناشئة، وساندت ديكتاتوريات دَموية، وساندت دولة مغتصبة هي [إسرائيل] على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، وأنقذَت [إسرائيل] من هزائمَ عدّة كان العرب على وشك أن يلحقوها بها.. أيّ مشكل لعبتْ فيه [أمريكا] دوْر الوسيط، فعَرف الحلّ العادل والمقبول؟ لقد رأيتَ [أمريكا] وحليفتَها [أوروبا] كيف تلاعَبتا بقضية وحدتنا الترابية، وكيف يتظاهران نفاقًا بمساندتِنا في استكمالنا لوحدتنا الترابية في الوقت الذي يسمحان فيه لشرذمة الانفصاليين بإقامة مكاتب لهم في [أوروبا]، ويفرضونهم علينا في المؤتمرات، وفي الأمم المتحدة، وفي سائر اللقاءات الدّولية.. أنتَ ترى مثلا كيف تنافقُنا [إسبانيا] الاستعمارية التي ما زالت تَسيرُ على خُطى [إيزابِيلاّ] القروسْطية، وتدّعي صداقَتنا في الوقت التي تستقبل فيه رئيس [البوليساريو] في [مدريد] استقبالا رسميًا.. هؤلاء لا ثقةَ فيهم، وقادةُ [أوكرانيا] بدؤُوا يعونَ ذلك، وهو ما جعل رئيسَهم يقول إنّه مستعدّ لإعطاء بعض التّنازلات لروسيا وألغى طلبَه بالانضمام لِلنّاتو وللاتحاد الأوروبي..