محمد فارس
لقد مارس الرئيسُ الفرنسي [ماكرون] منذ دخوله إلى قصر [الإيليزي] ما قد نسمّيه [الفانْطاسْيا]، وهذا المصطلح له معانٍ عديدة عبر العصور، وقد شرحه فلاسفة القرن السّابع عشر بكونه قوّة الخيال التي تحفظ الصُّوَرَ بعْد غيبة المحسوسات، ونحن اليوم نُطلِقُه على كلِّ تَخيّلٍ وهمي متحرّر من قيود العقل، أو على كلِّ فاعلية ذهنية خاضعة لتلاعُب تَداعي الأفكار، أو على رغبة طارئة لا تستند إلى سبب معقول؛ و[ماكرون] أعطى الدّليل على أنّه بارعٌ في [الفَنْطاسيا] و[اللاّمعقول]، حيثُ أصبحَ مُغْرمًا بِحفلات يضفي عليها طابع التّاريخية والتّاريخُ لم يُولِها أيّة أهمّية ولا قيمةَ تاريخية لها إلاّ في [فنْطاسيا] [ماكرون] وفي [اللاّمعقول] الذي ينهجه ممّا يؤكِّد (شَعْبويتَه) تارةً، وتارةً أخرى يَكشف عن يمينيتِه المتطرفة وإن كان ينتمي إلى يمين الوسط، لكنّه يعتمد في سياسته العبثية بعضَ أفكار اليمين المتطرِّف وإنْ كان ينهجها في السّياسة، وينتقدها نفاقًا في وسائل الإعلام..
فالرئيس [ماكرون] يحتفي بأحداث تاريخية لم يُولِها المؤرّخون أدنى اهتمام مثل احتفائه بزيارة [بطرس الأكبر] لفرنسا واحتفل [ماكرون] بمرور قرنين على هذه الزّيارة واستدعى [بوتين] للمشاركة في هذا الاحتفال؛ ومنذ شهريْن احتفى بالذين خدموا الاستعمار الفرنسي، وردّ لهم الاعتبار ووعدهم بامتيازات سيَضْمنُها لهم قريبًا كما عبّر لهم عن اعتذاره باسم [فرنسا]؛ لكنّه لم يَرُدّ الاعتبار لِلّذين قاتلوا في الحربين الأولى والثانية من أجل حرِّية [فرنسا] وانعِتاقِها وما زالت قبورهم تَملأ الرَّحبَ في كلّ أرجاء البلاد، ومنهم مُسْلمون وأفارقة سُود وڤيتناميون، ونحن نرى اليوم، كيْف ينكِّل [ماكرون] بالمسلمين، وأيُّ عداءٍ يُضْمِره للإسلام ولنبيِّ الإسلام، وكمْ من إمام مغربي عَزلَه وأقفلَ عدّةَ مساجد لأسباب واهية.. ويوم (30 نونبر 2021) المنصرم، طلع علينا [ماكرون] باحتفال مفاجئ، يكرِّم من خلاله الرّاقصة والمغنّية السّمراء [جوزفّين بيكير] التي جعل منها عظيمةً من عظماء [فرنسا]، ونُقلت رُفاتُها لِتُدفنَ في مقبرة (عظماء فرنسا) أي (البانتيون)..
إذا كانت [جوزفّين بيكير] السّمراء قد كُرِّمت على يد [ماكرون] الـمُهوس بأحداث تاريخية لا قيمةَ لها، فإنّ [ماطاهاري] الصّفراء قد اتُّهِمت بالخيانة والتّجسّس، وقد كانت هي كذلك راقصة يَحوم حَوْلها الجنيرالات، ومسؤولون كبار في [فرنسا]؛ وفي يوم (13 فبراير 1917) بعدما ذَبِل جمالُها، أُلقِيَ عليها القبض، وحُوكمَت محاكمةً سريعة قبل أن تفشي أسرارَ من كانوا يشاركونها حديثَ الوسادة، فأُعدِمَت يوم (15 أكتوبر 1917)، ودُفِنَ سِرُّها معها واعتُبِرت خائنةً، وهذا ليس بغريب على [فرنسا] العجائب والغرائب، وقد برَّؤُوا قاتِلَ [جان جوريس] الذي كان يناهِض قيامَ الحرب العالمية الأولى، وقاموا بالتّنويه بِـ[جوريس] بقاتله، واعتبروهما مُفْعمَيْن بالرّوح الوطنية، وهو ما يشبه في التّاريخ العربي حيث يُقال: [سيِّدُنا قَتَل سيِّدَنا] أو (إنّ القاتل اجتهد، فأَخْطأ) يا سبحان الله، ثم لله في خلِقه شؤون.. والرئيس [ماكرون] اليوم، يعبِّر بسياسته، واحتفالاته عن (الفانطَاسْما الفرنسية)، حتى لإنّ أحدَ المعلِّقين صاح وهو يَحضُر تكريم المغنّية والرّاقصة [جوزّفين]: [ماذا أصاب فرنسا]؟!
لقد قمتُ ببحث مُضْنٍ عن اسم هذه الرّاقصة، فوجدتُ [بيكير] السِّينمائي الفرنسي، كما وجدتُ [جوزڤين] زوجة [نابليون] الأولى، ولكن لم أعثرْ على [جوزفّين بيكير] إطلاقا وحتى في قصاصات الصحف الصّادرة في القرن العشرين، لم أعثُر لها على أثر يُذكَر، لكنْ لها وجود، ولها ذِكر، ولها تكريم في (فانطاسما التاريخ الماكروني) الذي تتمتّع [فرنسا] بروائعه، وبهلوانياته؛ فالرئيس [ماكرون] الآن يحاول بشعبويته أن يلمِّعَ صورتَه عساه يكسب [quinquennat] ثانية، ولكنّ ذلك لن ينفعه مهما اجتهد في (فانطاسْماه) الباهتة، وفي شعبويته البالية.. [فرنسا] عوَّدتْنا عبر تاريخها بإنتاج مثل هذه النّماذج في سياستها؛ لقد رأينا في الثّلاثينيات كيف نشرَ رئيسُ الحكومة ويُدْعى [بلوم] كتابًا ينادي فيه بمضاجعة الأب لابْنَتِه، والأخ لأُختِه، وأنّه ليس في ذلك عيْب، وقد كان فِكْرُ هذا الرئيس يدرَّس في المدارس في حصص التّربية والتّعليم، وقد حاول الفرنسيون اغتيالَه بعْد الحرب العالمية الثّانية.. هذه هي [فرنسا] الغرائب، ومَصدر العجائب، ومنبع المفاسد كما قال الفيلسوف الأمريكي [ويل ديُورانت]، ولها اليوم، أتباع في كل البُلدان، يَخدمون مصالحَها، ويطبِّقون أفكارها، ويبرِّرون استعمارها، ويردِّدون أقوالها، ويحافظون على لغتها، ويستلهِمون قوانينَها، ويطبِّعون منكراتِها، و[فرنسا] تعتبرهم مجرّد خدَم وعبيدٍ لها لا أقلَّ ولا أكْثر، ولكنْ بماذا وكيف ستقنِع المستلبين من (أهْل تُبّع)؟ [يا حسرةً على العباد] صدق الله العظيم.