في ذكرى يحتفظ بتفاصيلها العالم أجمع، يوم السادس من نونبر عام 1975، استيقظ العالم على مشهد تاريخي غير مألوف، قافلة بشرية قوامها 350 ألف مغربي من رجال ونساء، متجهين نحو الصحراء المستعمرة آنذاك من إسبانيا، في خطوة جريئة نحو تحرير الأراضي المغربية.
هذه المبادرة كانت من رسم وإرادة جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، الذي قرر بعدم التفريط في هذه الأرض، مهما كانت الأطماع التوسعية، سواء الإسبانية أو تلك التي تحلم بإنشاء “دولة” جديدة قد تصبح أداة لأجندات إقليمية.
وبعد مرور 49 عامًا على “المسيرة الخضراء”، الحدث الذي أطلق عملية استرجاع ما يزيد عن ثلث مساحة المغرب الحالية، لازالت أصداء هذا الحدث حاضرة، مشكّلة خريطة سياسية جديدة في شمال إفريقيا.
تفاصيل عدة من هذا الحدث التاريخي الهام، سنعيد تشكيلها وسردها، حول كيف منع جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، انفصال الصحراء، وفرملة الأطماع الأجنبية، وفي نفس الوقت عدم تحريك الجيش إلى هذه الأقاليم.
أطماع مستمرة في الصحراء المغربية
تعود الأطماع الإسبانية في الصحراء إلى القرن الثامن عشر، حين ازدهرت تجارة العبيد بين أوروبا وشبه الجزيرة الإيبيرية ومستعمرات إسبانيا في القارة الأمريكية. كان الهدف حينها هو إنشاء موانئ لتسهيل نقل العبيد، لكن الأمر تغير مع اكتشاف الإسبان للثروات الاقتصادية التي تمتلكها المنطقة ذات السواحل العذراء، والتي تتميز بالثروة السمكية والموارد الباطنية المدفونة تحت الرمال.
هذا ما يفسر إصرار إسبانيا على نيل جزء من الأراضي المغربية خلال مؤتمر برلين عام 1884، مستغلةً قلة عدد السكان وبُعد المنطقة عن مركز الحكم السلطاني لتروج لفكرة أنها ستسيطر على منطقة قاحلة غير مأهولة. وفي عام 1934، بعد قيام الجمهورية الثانية، قررت الحكومة الإسبانية منح المنطقة صفة الإقليم الإسباني. لكن تطورات كثيرة تلت ذلك، أبرزها اندلاع الحرب الأهلية في 1936 بين القوميين والجمهوريين.
وبعد أن حُسمت الأمور لصالح الجنرال فرانسيسكو فرانكو في عام 1939، والذي كان مشغولًا بإعادة بناء البلاد وفرض سيطرته على جميع مفاصل الدولة تزامنًا مع بداية الحرب العالمية الثانية، عادت إسبانيا إلى المغرب من أجل إضفاء الشرعية على احتلالها للصحراء، مستغلة مبايعة القبائل للسلاطين المغاربة وارتباطهم بهم دينيًا وسياسيًا. وقد طلبت إسبانيا مساعدة القصر في اختيار حكام الأقاليم، وهي العملية التي شارك فيها أحمد بلبشير الحسكوري، الذي كان رئيس وزراء حينها، حيث كان هؤلاء الحكام، رغم كونهم إسبانًا، يعلنون سنويًا الولاء للسلطان.
فكرة التحرر
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت المطالب التحررية تزداد حدة في العالم. وكان الوضع في المغرب أكثر تعقيدًا نظرًا لتقاسمه بين فرنسا وإسبانيا والنظام الدولي في طنجة. بدأ الاستقلال التدريجي في عام 1956، وفي عام 1957، أصدرت المملكة مطلبًا صريحًا لإنهاء استعمار الأقاليم الصحراوية وضرورة إعادتها للسيادة المغربية، تلاه في عام 1965 طلب من الأمم المتحدة بإنهاء الاستعمار في الصحراء.
منذ ذلك التاريخ، دخل جلالة الملك الراحل الحسن الثاني في مفاوضات مع نظام فرانكو من أجل إيجاد حل للمسألة، وهو ما كان يُقابل بالرفض تارة وبشروط تُفقد الاستقلال مضمونها تارة أخرى.
إذ كانت إسبانيا ترغب في الاحتفاظ بسيطرتها الاقتصادية والعسكرية في العديد من المواقع. لكن مع تقدم الجنرال في السن وانشغاله بمرحلة ما بعد رحيله، في عام 1974، أعلنت الحكومة الإسبانية عن نيتها إجراء استفتاء لتقرير المصير في الصحراء.
لم تكن هذه الخطوة تهديدًا للسيادة المغربية المستقبلية على الأقاليم الجنوبية فحسب، بل كانت تعني أيضًا حصارًا كاملًا على ما سيتبقى من التراب المغربي من خصومه الإيديولوجيين، سواء الجزائر التي كانت تحت حكم هواري بومدين، أو جبهة “البوليساريو” التي احتضنتها الجزائر وليبيا ودعمها الاتحاد السوفياتي منذ تأسيسها في عام 1973. الأمر الذي جعل الحسن الثاني يعلن العداء الصريح لفكرة “تأسيس دولة” في المنطقة.
رفض فكرة الانفصال
برز هذا التوجه في حديث الحسن الثاني مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، في 15 أكتوبر 1974، الذي وثق تقريره الأرشيف الرسمي الأمريكي.
قال الملك الراحل إنه أبلغ لوبيث برافو، وزير الخارجية الإسباني في الفترة بين 1969 و1973، بأنه يفضل رؤية الإسبان في الصحراء على أن يوافق على انفصالها، ووجه كلامه لكيسنجر قائلاً: “وجود دولة في الصحراء بمثابة قبول الولايات المتحدة بوجود صواريخ سوفياتية في كوبا”.
وجاء في الوثيقة أن الحسن الثاني قال للمسؤول الأمريكي “إذا تحركت إسبانيا لمنح الاستقلال للصحراء، فأنا أخبرك بصريح العبارة، أنه إذا أُعلن استقلال الصحراء في العاشرة صباحًا، سأحرك قواتي لدخولها في الحادية عشرة”.
وتابع “إذا منحت إسبانيا الاستقلال لتلك المنطقة فسيكون المكان مليئًا بالثوار الروس والصينيين في غضون سنتين. الإسبان سيعودون إلى بلدهم، أما المغرب فسيكون محاطًا بالبحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي، وبالجزائر من الجوانب الثلاثة الأخرى”.
قرار لاهاي
لكن النقطة المفصلية التي دفعت الحسن الثاني إلى التحرك ميدانيًا في الصحراء لم تكن قرار إسبانيا وإنما خيبة الأمل التي خلفها قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي.
كان جلالة الملك يثق في أن القضاء سيحسم الأمر لصالح المغرب، وهو ما قاله لكيسنجر عندما أشار إلى أن السجل الرسمي الفرنسي لسنة 1955 كان يشير إلى أن مدن الصحراء كانت تدار من طرف الإدارة المركزية المغربية. لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة.
وبعد جلسات طويلة من النقاش امتدت ما بين 25 يونيو و30 يوليو 1975، صدر الرأي الاستشاري للمحكمة في 16 أكتوبر 1975، والذي كان في جزء منه لصالح الطرح المغربي، حيث اعترف بوجود روابط بيعة من طرف شيوخ القبائل للسلاطين المغاربة، كما أكد ارتباط التجمعات السكانية هناك اقتصاديًا وسياسيًا بالمغرب. إلا أن المحكمة اعتبرت أن الوثائق والدلائل التي استندت عليها الرباط لا تكفي لحسم سيادته على الصحراء ولا تتعارض مع مبدأ تقرير المصير في المنطقة.
بداية الفكرة
أصبح هذا الموضوع يؤرق بال الحسن الثاني، حيث كان تأسيس دولة في الصحراء بالنسبة له أمرًا مستحيلًا، وكان يفكر في الحل البديل قبل صدور رأي المحكمة الدولية، وهو ما يؤكده في حواراته مع الصحافي الفرنسي “إيريك لوران” في كتاب “ذاكرة ملك”.
ففي يوم 19 غشت 1975، كان العاهل المغربي يُعد خطابه بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، عندما انتبه إلى أن العديد من المواطنين المغاربة يتظاهرون في الشوارع مطالبين باسترجاع الصحراء.
يقول جلالة الملك “رأيت آلاف الأشخاص يتظاهرون في جميع المدن الكبرى مطالبين باستعادة الصحراء، فلماذا لا ننظم تجمهرا سلميا ضخما على شكل مسيرة؟”، لكنه لم يفاتح أحدًا في هذه الفكرة، ولم يُشر إليها في خطابه. في المقابل، بدأ الإعداد الفعلي للعملية باستدعاء ثلاثة قادة عسكريين فقط، وهم الجنرال أشهبار، الذي كان كاتبًا عامًا لإدارة الدفاع، والجنرال بناني المسؤول عن المكتب الثالث، والكولونيل ماجور الزياتي من المكتب الرابع.
الخروج إلى العلن
بدأ الإعداد للمسيرة الخضراء وسط كتمان تام استدعى جلالة الملك الراحل القادة العسكريين وطلب منهم أداء اليمين بعدم إفشاء السر، حتى لو لم يوافقوا على مقترحه.
وعندما أراد إعداد المؤونة اللازمة للمتطوعين، لجأ إلى حيلة لإبعاد أعضاء الحكومة عن خطته، استدعى وزيري التجارة والمالية وطلب منهما تخزين المواد الغذائية من باب الاحتياط بحجة أن “شهر رمضان قد يكون قاسيا لأن المحاصيل الزراعية كانت متوسطة”.
في كتاب “ذاكرة ملك”، يتحدث الحسن الثاني عن سبب اختياره لأن تكون المسيرة الخضراء مكونة من 350 ألف شخص، قائلاً: “الأمر في غاية البساطة، هناك 350 ألف مغربي ومغربية يولدون كل سنة، وبالتالي، فإن هذا العدد ليس بالأهمية التي قد تؤثر على عدد السكان”.
وقد حظيت الفكرة بدعم القادة العسكريين الثلاثة الذين استمروا في التخطيط للأمر في مكتب جلالة الملك حتى بداية شهر أكتوبر، حين حان وقت الشروع في التدابير اللوجستية والاستعداد لفتح مكاتب تسجيل المتطوعين، ما كان يعني ضرورة إشراك أعضاء الحكومة وعمال الأقاليم.
وعلى الرغم من أن قرار محكمة العدل الدولية لم يحسم الأمر لصالح المغرب، إلا أن الحسن الثاني استطاع تحويل الأمر لصالحه.
ففي اليوم نفسه، وجه خطابًا للمواطنين من مراكش قائلاً: “بقي لنا أن نتوجه إلى أرضنا، الصحراء فتحت لنا أبوابها قانونيًا، واعترف لنا العالم بأسره بأن الصحراء كانت لنا منذ قديم الزمن، واعترف لنا العالم أيضًا بأنه كانت بيننا وبين الصحراء روابط، وتلك الروابط لم تُقطع تلقائيًا وإنما قطعها الاستعمار. إذن علينا أن نقوم بالتزاماتنا”. وأضاف “علينا أن نقوم بمسيرة خضراء من شمال المغرب إلى جنوبه ومن شرق المغرب إلى غربه. علينا، شعبي العزيز، أن نقوم كرجل واحد بنظام وانتظام لنلتحق بالصحراء لنصل الرحم مع إخواننا في الصحراء”.
العالم شارك وشاهد
دهاء جلالة الملك حينها، جعله يقوم بفتح الباب أمام وفود أجنبية للمشاركة في المسيرة بأعلامها، حيث كانت الدول التي بعثت وفودا للمشاركة بشكل رسمي في هذا الحدث هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وسلطنة عمان والأردن والسودان والسنغال والغابون، فيما تؤكد مصادر أخرى أن جنسيات عدة حضرت مثل المتطوعين العراقيين واللبنانيين وحتى الأمريكيين.
وشهدت المسيرة أيضا حضور شخصيات بارزة، أبرزها محمد بن زايد آل نهيان نجل رئيس دولة الإمارات زايد بن سلطان آل نهيان وولي عهد أبو ظبي حاليا، وحسن التهامي نائب رئيس الوزراء المصري الأسبق والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وقتها، بل إن شيخ الأزهر حينها، عبد الحليم محمود، بعث رسالة إلى الملك الحسن الثاني يعلن فيها “التأييد الحار للمسيرة في طريق استرداد حق الشعب المغربي في أراضيه”.
وفي يوم 5 نونبر 1975 ردد الحسن الثاني على مسامع المغاربة خطاب المسيرة الخضراء الشهير “غدا إن شاء الله ستخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غدا إن شاء الله ستطؤون أرضاً من أراضيكم وستلمسون رملاً من رمالكم وستقبلون أرضاً من وطنكم العزيز”، مشددا على أن الهدف ليس هو معاداة الإسبان بل استعادة الأراضي المغربية، حيث أورد “شعبي العزيز، إذا ما لقيت إسبانيا، كيفما كان ذلك الإسباني، عسكريا أو مدنيا، فصافحه وعانقه واقتسم معه مأكلك ومشربك وأدخله مخيمك، فليس بيننا وبين الإسبان غل ولا حقد، فلو أردنا أن نحارب الإسبان لما أرسلنا الناس عزلا بل لأرسلنا جيشا باسلا، ولكننا لا نريد أبدا أن نطغى ولا أن نقتل ولا أن نسفك الدماء بل نريد أن نسير على هدى وبركة من الله في مسيرة سلمية”.
ولم تدم المسيرة بعد السادس من نونبر إلا 3 أيام، اجتاز خلالها المغاربةُ المحملون بالمصاحف والأعلام الحدودَ، وتوغلوا إلى بضع كيلومترات وسط الصحراء وسط تغطية إعلامية دولية ضخمة، قبل أن يصدر أمر الرجوع يوم 9 نونبر من طرف الحسن الثاني في خطاب قال فيه “علينا أن نرجع إلى مُنطلقنا لنعالج الأمور والمشاكل بكيفية أخرى وأساليب جديدة”، وكان حين قد تأكد من أن إسبانيا قد وافقت تسليم الصحراء للمغرب وموريتانيا.
وتحدث العاهل المغربي عن هذا القرار في كتاب “ذاكرة ملك” قائلا إنه قرر وقف المسيرة “في الوقت الذي أدركت فيه جميع الأطراف المعنية أنه يستحسن أن تحل الدبلوماسية محل الوجود بالصحراء”، ليبدأ منذ ذلك التاريخ مسار جديد وطويل، الأمر الذي جعل المغرب المتحكم الفعلي في جل أراضي الصحراء المغربية، وأصبح يحصد النتائج والانتصارات يوما بعد يوم.