محمد فارس
فما معنى السّيادة؟ ما مصدرُها؟ وما هي الأنسالُ التي تنحدر منها؟ السّيد في اللغة هو المالك والملك، والمولى، والمتولّي للجماعة الكثيرة، وكلّ من افتُرِضتْ طاعتُه، وسيّدُ كل شيء أشرفُه، وأرفعُه، وأعلاهُ، ومنه قولهم: الخيرُ الأعلى.. ويُطلق السّيد في عِلم السياسة على الفرد أو الجماعة من جهة ما هُمَا متمتّعان بسُلطان الدولة.. قال [روسو] في كتابه [العَقد الاجتماعي]: [إن هذا الشّخص العام الذي يتألّف من اتّحاد جميع الأشخاص الآخرين، قد سُمّيَ في الماضي [مدينَة]، وهو يسمّى الآن [دولة]، أو [هيئة سياسية]، فإذا كان قابلاً ومنفعلاً سُمِّيَ [سُلطة]، وإذا كان فاعلاً سُمّيَ سيّدًا، وإذا قُرن بأمثاله سُمّي [سلطة عليا]؛ وتعدّ السّلطةُ العليا التي يتمتّع بها هذا الشخص، منبعًا لجميع السّلطات الأخرى.. و[السّيادة] مصدرُ سادَ؛ تقول ساد سيادةً أي عظُم، وشرف، وساد قومَه أي صار سيّدهم، ومنه سيادة الدّولة، وسيادة القانون. وإذا أُضيف لفظُ [السّيادة] إلى الدولة، دلَّ على السّلطة السّياسية، التي تُستمدُّ منها جميع السّلطات الأخرى؛ وكل [سيادة] فهي مستمدّة من الشعب، ولا يمكن لأحدٍ أن يمارسها إلاّ باسمه، وهي واحدة لا تنقسِم، ولا تبطل بمرور الزّمان.. ويُطلق لفظ [السيادة] على استقلال الدولة عن غيْرها استقلالاً تامّا، وإذا كانت [سِيادة] الدّولة مستمدّة حقّا وصدْقًا من الشعب، كان نظامُها ديمقراطيًا؛ وإذا كانت غيْر مستمدّة من الشّعب، كان نظامُها ديكتاتوريًا.. ونحن دولةٌ مستقلة، ذات سيادة، فما الذي يجعلنا نأخُذ بسياسة منظّمات أجنبية أو نقلِّد دولاً أخرى في إلغاء حُكْم الإعدام الذي يطالب به الشعبُ الذي منه تَستمدُّ الحكومةُ سلطتَها والدّولةُ سيادتَها؟
لكن ما معنى [العدالة] أو [العدْل]؟ هي كلمة يحيط بها من غموض المعنى، ما جعل عميدَ جامعة أمريكية يوصي طلاّب مدرسته منذ البداية، بأن يكونوا على بيّنة تامّة من طبيعة دراستهم، فيعْلَمون في وضوح أنهم جاؤُوا إلى الجامعة ليدْرسوا [القانون] لا لِيدْرسوا [العدالة]، لأنّ معرفة القوانين وسلامة تطبيقها على المتقاضين في المحاكم، هي مسألة عِلمية حِرَفية (بكسْر الحاء) لا تدخُل في دنيا العدالة الواسعة إلاّ من باب ضيْق الحدود، يقتصر فيه الأمرُ على العدل القضائي، لكن الفرقَ بين هذا العدل القضائي الذي تَعرفه المحاكمُ وبيْن العدل الذي نَعنيه، وهو فرقٌ بعيد بُعْد ما بيْن القطبيْن، ولذلك يحسن بدارس القانون، في رأيِ ذلك العميد، ألاّ يورّط نفسه في تيهِ العدالة، وإذا شئْتَ أن تَعرف أيّ غموض يكتنف فكرة العدالة بمعناها الاجتماعي الواسع، لا بمعناها القضائي المحدود، فاقْرَأ الأجزاءَ الخمسة الأولى من مُحاورة [أفلاطون] (الجمهورية)، وهي الـمُحاورة التي أراد بها أن يَرسمَ صورةً للدّولة عندما تبلغُ درجةَ الكمال؛ لكنّه لكي يرسم هذه الصورة، كان لابُدّ له أولاً أن يحدّدَ المعنى المراد بـ[العدالة] لأنّها محْور البناء كلِّه..
[العدالة] يجب أن تكون قائمة على أساس حاجات الناس، وما ينادون به، لا على أساس [الحقوق] المزعومة لأصحابها، ولابُدّ للعدالة أن تكونَ مُبْصرة لترى بوضوح ما يرغبُ فيه المواطنون، وهم يطالبون بكذا أو كيت، كمُطالبتِهم بإنزال عقوبة الإعدام بقاتِل النّفس بغيْر حقّ؛ فالشعبُ متعطّشٌ للعدالة وليس بحاجة إلى قانون.. فما هي [العدالة] إذن؟ [العدالة] في اللّغة الاستقامة؛ وفي الشّريعة الإسلامية الاستقامةُ على طريق الحقّ، والبُعدُ عمّا هو محظور، ورُجْحان العقْل على الهوى والزّيغ؛ وفي اصطلاح الفقهاء هو اجتنابُ الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، واستعمالُ الصّدق، واجتنابُ الكذِب، وملازمة التّقوى، والبعدُ عن الأفعال الخسّيسة؛ والعدالةُ مرادفة للعدل باعتباره مصدرًا، والعدالةُ عند الفلاسفة هي المبدأ المثالي، أو الطّبيعي، أو الوضعي الذي يحدّد معنى الحقّ، ويوجب احترامَه وتطبيقَه.. ومن فضائل العدالة، الحكمة، والشجاعة، والعفّة، والعدالة، وليست العدالةُ جزءًا من الفضيلة، وإنّما هي الفضيلةُ كلُّها كما يقول [ابن مسكويه] في كتابه: [تَهذيبُ الأخلاق].. فالعدالة من الصّعب إطلاقُها على قانونٍ ما، ذلك أنّ كثيرًا من الفواحش صارتْ لها قوانيـنُ تُبيحها مثل الشّذوذ الجنسي مثلا أو إلغاء تنفيذ عقوبة الإعدام في قاتل النفس، ولا أحد يجرُؤ على تسمية تلك القوانين بالعدالة، بل تسمّى قانونًا وكفى.. وفي المحاكم التي تحكُم بالقانون، تجد محاميَيْن في مُبارزة لغوية وبلاغية، ومن كان منهما أكثر فصاحةً وأقلَّ أدلّةً ربِحَ الدّعوة، هذا ما قاله فيلسوفٌ أمريكي شهير بخصوص المحاكم في [أمريكا].. ودليلي على أن العدالة هو ما يحتاجه المجتمعُ هو أنّ الله سبحانه وتعالى تحدّث عن العدل، وجعله أساس الملك، كما أسماه القصاص، وجعلَ فيه للناس حياة، ولم يذكُر القرآن الكريم شيئًا عن القوانين، وأغلبُها كان جائرًا عبْر العصور، وقد عانت أممٌ من هذه القوانين وطالبتْ بالعدالة، لأنّ العدالةَ هي الفضيلة كلّها وبالعدالة عُرفَت أممٌ، واستقرتْ، وتقدّمت، وليس بقوانين يصوغها أفراد يحمون بها مصالحهم، ويُتعِبون بها الشّعوب، ويطبّقونها على المقهورين، لهذا نهتف: يحيا العدل!