في تقريرها الأخر حول “مستوى إدراك الرشوة” من قبل المغاربة، اوضحت الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة (ترانسبارانسي المغرب) أن المغرب تراجع إلى الوراء واعترف من الرتبة الأخيرة في إدراك الفساد، الذي يتم تنقيطه من صفر إلى مائة وكلما اقترب البلد من الصفر كلما كان بلدا مصنفا جيدا في مكافحة الرشوة، وكلما اقترب من المائة، كما هو حال المغرب كلما كان وضعه سيئا في محاربة الرشوة.
المنظمة المذكورة لا تحدد موقفا وإنما تقدم أرقاما وتحقيقا في الواقع وتترك الحكم للفاعلين في الميدان، حيث عبّرت الجمعيات المعنية بمحاربة الفساد عن موقفها في القضية، التي أصبحت اليوم تقظ مضاجع الجميع باستثناء الحكومة، التي يبدو أنها مستاءة من تقارير محاربة الفساد، بل عطّلت كل شيء له علاقة بهذا الورش الكبير، الذي دونه لا يمكن انتظار أي مسار للتقدم.
الفساد ليس قدرا مقدرا، وليس حتمية تاريخية تمر منها البلدان، ولكنه إنتاج للنخب الفاسدة، التي تصنع لوبيات لهذا الغرض وتكون شبكات دورها “التوزيع العادل” للرشوة عبر المجتمع، حتى تصبح كل إدارة وكل مؤسسة فيها “رائحة فساد”، كي يتم التطبيع معه اجتماعيا، لأن عدم التطبيع معه يجعله نشازا بينما عندما يتم تعميمه يصبح أمرا عاديا ومقبولا.
الفساد هو إنتاج منظومة تقوم برعايته وحمايته وتطويقه في مواجهة أية محاولة للقضاء عليه، لأن نجاح الحرب على الفساد تعني فشل دعاته والمنتفعين منه والمستفدين من عائداته، والذين لا يمكنوا أن يراكموا الثروات دون استمرار منظومة الفساد، ولا يمكنوا أن يحموا أنفسهم إلا ببقاء الفساد وانتشار المنظومة في كل مؤسسات البلاد، ودون أن يعني ذلك الرهان على فساد المؤسسات ولكن أن يصبح الفساد جزءا طبيعيا منها ولو مارسه شخص واحد.
ولم يظهر من الحكومة أي مؤشر على رغبتها في محاربة الفساد، بل أظهرت مؤشرات كبيرة على أنها غير معنية بهذا الملف، ومعاكسة الإرادة العامة، ويمكن القول إن سلوكات الحكومة تسير في اتجاه حماية هذه الآفة، وذلك من خلال ثلاث نقط:
النقطة الأولى تتعلق بانتفاضة الحكومة ضد التقرير الذي أنجزته الهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة، وهي مؤسسة رسمية ودستورية، حول مؤشرات الفساد في المغرب معتبرة إياه أصبح منظومة اليوم وليس فقط حالات هنا وهناك، واعتبرت الحكومة من خلال رئيسها ووزرائه أن التقرير لا يمثل الحقيقة، وإنما هو مجرد مزاعم.
النقطة الثانية تتعلق بتجميد اللجنة الوطنية لمحاربة الفساد، التي يترأسها رئيس الحكومة، والتي لم تعقد سوى اجتماعين منذ تأسيسها سنة 2019، ولهذا رفضت ترانسبارانسي تعيين ممثل لها في اللجنة بعد وفاة كاتباها العام السابق، الذي كان ينوي تقديم استقالته، وصرح قبيل وفاته أن بعض الحقوقيين ألحوا عليه للصبر قليلا، لأن اللجنة غير مفعلة.
النقطة الثالثة وتتعلق بإلغاء خلية محاربة الفساد من رئاسة الحكومة، وهي خلية، قوتها في وجودها ورمزيتها أكبر من عملها الميداني، لأنها تدل على رغبة الحكومة ورئيسها في محاربة الفساد.
الفساد كما قلنا ليس قدرا ولكنه صناعة وهناك من يرعاه ويحميه.