محمد فارس
تقدّم الكلامُ في تاريخ الغناء وأصْله وانتشارِه، وقد رغب الحكام فيه على الخصوص في إبان الحضارة وعصْر الرخاء والتّرف، وجعلوا للمغنّين نوبات يدخلون فيها مجالسهم، وفرضوا لهم الرواتب، وعَهدوا بهم إلى بعض أهلِ السّلطة ينظرون في أمورهم، وكانوا يصطحبونهم في خروجهم للصّيد أو نحوِه، ويجيزونهم الجوائزَ الكبرى والمبالغ الضّخمة والأُعطيات السّخية، فكانوا يسْمعون الغناء وهم يحْتَسون المسْكرات، فإذا طربوا، بذَلوا الأموال بلا حساب، وغالبًا ما تكون هذه الأموالُ الباهظة التي تُنفق على المغنّين من أموال (بيت مال المسلمين)، تمامًا كما هو الشأن اليوم، حيث تُنْفق الملاييرُ على (فيسْتيڤالات) مغنّي [الرّاب] السّاقط، من أموال خزينة الدّولة، ومن أموال شعبٍ مقهور، فترى مغنّي [الرّاب] يُغني وهو شبْهُ عارٍ، وخلال ندوته الصحفية، يَعترف بتعاطي [الحشيش]، ويرى ذلك أمرًا عاديًا، كما يتلفّظ بألفاظ ساقطة، تخْدشُ الحياء، فتجد وزيرَ الثقافة يدافع عنه بلا حياء ولا شَرف..
كان من أكثر الخلفاء الأمويين رغبةً في الغناء، وبذلاً للمغنّين [يزيدُ بن الملك]، الذي استخفّه الطّربُ من غناء جاريته [حُبابة] حتى قال: [أُريدُ أن أطير]، فقالت له [حُبابة]: [على من تَدع الأُمةَ وتَدعنا؟]؛ وكذلك كان ابنُه [الوليد بن يزيد]، ومعلوم أنّهم كانوا إذا أهمّهُم أمرُ الدّولة، وخافُوا سقوطَها، أبْعَدوا المغنّين ليتفَرغوا لمهامّهم كما فعلَ [المأمونُ] لـمّا رجعَ من [خُراسان]، وكان لكبارِ المغنّين منزلةٌ رفيعةٌ في الدولة كإبراهيم الموْصِلي، وابنِه إسحاق، وابنِ جامع، وكانت جوائزُهم تفوقُ الحَصْر، وذكروا عن [إبراهيم] أنّه غنّى [للأَمين] بِشعر [أبي نواس]: [رشا لوْلا ملاحته * خلتِ الدنيا من الفتـنِ]، فاستخفَّه الطّربُ، حتى وثَب من مجلسِه، ركبَ على [إبراهيم] وجعل يقبّل رأسَه؛ فنهض [إبراهيمُ] وأخذ يقبّل أَخْمَص قدميِ [الأمين]، فأمر له بثلاثة آلاف درهم، فقال المغنّي [إبراهيم]: [يا سيّدي، قد أَجزْتني إلى هذه الغاية بعشرين ألْفَ أَلْف درهم]، فقال [الأميـنُ]: [وهل ذلك إلاّ خراجُ بعض الكور؟]؛ فاعتَبِرْ ما دخل على [الموْصلي] من [الرّشيد] وغيره، فلا غَروَ إذا توفّيَ عن ثروةٍ طائلة.. واشتَهر في [الأندلس] [عليّ بن نافع] المعروف بـ[زرياب المغنّي]، وهو الذي نقلَ هذه الصّناعةَ إلى [الأندلس]، فقد أَثْرى، وارتَفعتْ منزلتُه حتى صار يركب في (200) غلام، ويملكُ (30.000) دينار، غير الخيل، والضياع، والرقيق..
وهذا [الرشيد] كان إذا طَرب، وهبَ وجاد حتى ولّى المغنّي [إسماعيل بن صالح] (مِصْر)، لأنّه أطْربَه بغنائِه.. وهذا [الوليد] أطربَهُ غناءُ [ابن عائشة]، فقال له: [لقد حمَلْتني إلى سِدْرة الـمُنتهى] وحاشا ذلك، فهذه عبارةٌ كفرية، لأنّ (سِدْرة المنتهى) توقّف فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الـمِعْراج.. ولـمّا خرج [ابنُ عائشة] من عند [الوليد]، صار في الصحراء وهو يغنّي على ظهر ناقتِه، فسمعه أعرابيٌ من بعيد، فقال: [والله سأَتْبعُه ولو فقدتُ عضوًا من جسَدي]؛ فلمّا بلغه، استوقفَه وقال له: [بالله عليكَ يا ابْن عائشة، أَسْمِعْني شيئًا ممّا أَسْمعتَه (الوليد)، فبدأ [ابن عائشة] يغنّي، والأعرابيُّ يُحَرك رأسَه بشدّة حتى كادتْ أَن تَنْسلّ من جسدِه، ثم سقط مغْشيًا عليه..
كانت تلكم مهمّة المغنين، ووظيفة الغناء في العصور الغابرة، أما وظيفةُ المغنّين اليوم، فإنّها تمثل خطرًا داهمًا على الدين، والقيم، والأخلاق، والهدَف الحقيقي لهذه المهرجانات الموسيقية، هو إفسادُ الجيل المسلم أخلاقيًا، وإبعاده عن قيمِ دينه، وتجريده من وطنيته؛ وتُستخدم في ذلك حفلاتٌ موسيقية راقصة، وسهرات إلى ما بعد منتصف الليل، مع الاختلاط بكلِّ أشكاله، وشربُ الخمر، وتعاطي المخدّرات، والاتّصالات الفاجرة بين الجنسيْن، وغالبًا ما يكون هؤلاء المغنّون السّاقطون يخدُمون أجنداتٍ لـمُنظّمات هدَفُها هدْم الأديان، وتحويل الإنسان إلى حيوان، فيتّخذ الشبابُ المراهق هذا المغنّي أو ذاك قدوةً لهم في الحياة، فيظهر لهم المغنّي الفاسق وهو شبْه عارٍ، وبيده زجاجة الخمر، كما يعْتَبر المخدرات رمزًا للحرّية، وتحضّرًا، وهو ما لاحظناه خلال مهرجانات [الرّاب] في (الرباط) و(الدار البيضاء) و(أغادير.