وظف وزير العدل عبد اللطيف وهبي فرصة تعديل قانون المسطرة الجنائية لتحقيق تعهده السابق بمنع جمعيات حماية المال العام من تقديم شكايات ضد المنتخبين والشخصيات العامة في قضايا اختلاس المال العام. هذا الإجراء الجديد، الذي أثار جدلاً واسعاً، يهدف إلى تقليص دور هذه الجمعيات في تقديم الشكايات، وذلك في إطار سعي الحكومة للحد مما وصفه وهبي باستخدام هذا الحق بشكل سيء لتصفية الحسابات السياسية.
ويتضمن مشروع قانون المسطرة الجنائية، نصاً صريحاً يمنع إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية بشأن الجرائم التي تمس المال العام إلا بناءً على طلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيس النيابة العامة، وذلك بناءً على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات أو طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية، أو المفتشية العامة للإدارة الترابية، أو المفتشيات العامة للوزارات، أو الإدارات المعنية.
كما يتيح المشروع إمكانية إحالة هذه القضايا من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو أي هيئة يمنحها القانون صلاحية ذلك.
ورغم هذا التقييد، يمنح القانون النيابة العامة المختصة صلاحية التدخل تلقائيًا في الجرائم التي تمس المال العام في حالة التلبس، مما يشير إلى محاولة للتوازن بين فرض قيود على تقديم الشكايات من جهة، والحفاظ على القدرة على التدخل السريع في حالات الضرورة القصوى من جهة أخرى.
عبد اللطيف وهبي لم يخفِ في مناسبات عديدة، سواء أمام البرلمان أو في تصريحات إعلامية، استياءه من دور جمعيات حماية المال العام في رفع شكايات ضد المنتخبين والشخصيات العامة، معتبرًا أن هذه الجمعيات تستغل هذه الشكايات للابتزاز وتصفية الحسابات السياسية.
وشدد وهبي على أن الحق في تقديم الشكايات يجب أن يقتصر على الجهات التي يكون المال العام مصدرها، ما يعكس رؤية جديدة لكيفية التعامل مع قضايا الفساد المالي.
تصريحات وهبي كانت قد أثارت غضبًا واسعًا في صفوف جمعيات حماية المال العام، التي تعتبر نفسها قوة رقابية مستقلة تسعى لمحاربة الفساد وحماية المال العام.
وقد أشار العديد من المراقبين إلى أن هذه الجمعيات لعبت دورًا حاسمًا في متابعة عدد من المنتخبين قضائيًا وإدانتهم بناءً على شكاياتها، مما يطرح تساؤلات حول تداعيات هذه التعديلات القانونية على قدرة المجتمع المدني في محاربة الفساد.
هذه التعديلات ستعجل بظهور بوادر “المواجهة” بين وزير العدل عبد اللطيف وهبي وجمعيات حماية المال العام، التي تعتبر أن من حقها مراقبة المال العام، في ظل تزايد نسبة الفساد في المغرب.
وفي هذا الصدد سبق أن صرح محمد الغلوسي للنهار المغربية، أن الحكومة لم تبدأ بعد في ورش محاربة الفساد، معتبرا أن هذه الحكومة هي جزء من “اللوبيات” المستفيدة من واقع الفساد، باعتبار أن العديد من أعضاء الحكومة وعلى رأسهم رئيس الحكومة متورطين في ملفات تضارب المصالح.
وأضاف المتحدث، أن شبهة تضارب المصالح تطوق عنق رئيس الحكومة وأعضائها، دعيا إلى ضرورة تجريم ظاهرة تضارب المصالح لأنها تمس بأخلاقيات المرفق العمومي.
وعلاقة بالموضوع عبّر المحامي محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، في تدوينة تفاعلا مع جدل منع جمعيات حماية المال العام من تقديم الشكايات قائلا: ” أن حجم الشبكات المتورطة في الفساد والرشوة والتي تم تفكيكها أمنيًا وقضائيا واغتناء البعض بطرق مشبوهة وظهر جليا أن الفساد والمفسدين ولصوص المال العام يشكلون تهديدا حقيقيا للدولة والمجتمع”، كان “سيدفع وزير العدل إلى الحزم في التصدي للفساد وذلك عبر تجريم الإثراء غير المشروع وتعبئة كل الفاعلين بما في ذلك التحالف الحكومي”، مستشهدا في تعزيز اعتقاده ذلك، بكون وزير العدل “تابع بنفسه كيف أن المتورطين في هذه القضايا تاجروا في كل شيء بما في ذلك بيع الرضع ملائكة الرحمن وبيع تجهيزات المستشفيات وغيرها ودون أية حدود أو خوف من القانون والمؤسسات”.
ووفق تدوينة الغلوسي، فإن ما حصل هو اختيار وزير العدل “أن يعاكس توجه الدولة المعلن عنه على أعلى مستوى فيما يتعلق بمواجهة الفساد والرشوة واستغل موقعه الوظيفي لترديد أسطوانته المشروخة والمكررة حول شكايات جمعيات حماية المال العام والتي انزعج كثيرا من وجودها وأنه لا يعقل أن تستمر في تقديم الشكايات وتوظيف القضاء في صراعات سياسية”.
وبالنسبة لرئيس جمعية حماية المال العام، فإن وزير العدل “عاد ليدافع عن رفع عقوبة الوشاية الكاذبة إلى عشر سنوات سجنا! أي أن الجنحة ستصبح جناية لترهيب نشطاء حماية المال العام وكافة المبلغين عن الفساد وتكميم الأفواه وإشاعة الخوف، وهو بذلك يفرش سجادا أحمر للفساد والرشوة لينتعش ويحتفل بوجوده أمام الجميع دون أن يخشى المفسدون من أية ملاحقة أو مساءلة وليذهب ربط المسؤولية بالمحاسبة ومعها الدستور إلى المتحف”.
وشدد المحامي الغلوسي في تدوينته الفيسبوكية، إلى أن “وزير العدل ما يزال مصمما على أن يشكل رجع الصدى لأصوات تستفيد من واقع الريع والفساد وتحول إلى محاميها في مواجهة الأصوات المنتقدة لواقع الفساد والريع والرشوة والذي لم يعد خافيا على أحد، وهنا يحق للمرء أن يطرح السؤال التالي: لماذا يستغل وزير العدل موقعه لتبييض وجه الفساد ولصوص المال العام ويرفض أن يشكل محاميا للمجتمع المتضرر من نتائج الفساد والمضطر لتحمل تكلفته الباهظة مقابل إرضائه لحفنة من السماسرة وناهبي المال العام ومبيضي الأموال؟”.
وأضاف الغلوسي قائلا، “إن المتتبع لتصريحات وزير العدل حول موضوع الشكايات المقدمة ضد بعض المفسدين وسارقي الأموال العمومية سيتساءل عن علاقة وزير العدل بالشكايات والتي تبقى اختصاصا حصريا للنيابة العامة والتي لم تعد تحت سلطته، فلماذا يحشر أنفه في موضوع لم يعد مطلقا من صلاحياته؟”.
ولفت المحامي إلى أن “وزير العدل يتحدث عن توظيف البعض للشكايات من أجل ابتزاز المسؤولين، يفعل ذلك وهو يعلم جيدا أنه مسؤول قانونيا عن عدم التبليغ بجريمة يعاقب عليها القانون الجنائي، فلماذا يتستر عن المتورطين في جريمة مشينة وهي الابتزاز؟”.
وهو ما دفع الغلوسي من موقعه كرئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، إلى مطالبة الوزير وهبي بأن يقدم للقضاء ما يتوفر عليه من معطيات حول هذا الابتزاز، قائلا “ندين بشدة تحويل المجال الحقوقي إلى مجال للارتزاق والابتزاز، وهي أعمال تشكل فسادا يتوجب التصدي لها بكل حزم وصرامة مع متابعة من تورط في ذلك في حالة اعتقال وإصدار أحكام رادعة ضده، لأننا ضد تلويث وإفساد العمل الحقوقي وجعله حرفة لمن لا حرفة له”.