د. عبد السلام فزازي*
يحز في النفس حين نعاود الكتابة وللمرة الثالثة عن معضلة أصبحت ترهق سياساتنا الخارجية، خاصة وسياساتنا الداخلية عامة، سيما حين نحاول مرغمين تقييمها وفي القلب أكثر من غصة. أكيد أنها معضلة لا يختلف عنها اثنان، تتمثل في غياب دبلوماسيات وطنية ناجعة، تساير باقي دبلوماسيات الدول التي لا تقل عنا نجاعة، ومع ذلك، نراها ناجحة في مهماتها الإيجابية طبعا، والتي لا تفوقنا لا ثقافة، ولا تقليدا، ولا حتى في المسارات السياسة، التي يجب أن تستجيب لأفق انتظاراتنا، وهي كما أصبحنا ندرك أنها تقتات من جيوب المواطنين، أو بالأحرى على حساب مسارهم الحياتي؛ والدولة تعرف أن فشل ديبلوماسياتنا، أو حتى تعثراتها غير الموزونة، يجب أن تكون موضوع مساءلة المواطنين، وإلا فما شأننا في تمثيليات دبلوماسية أصلا، ما دامت المردودية مردودة على أصحابها. ترى ما دور السفراء والقناصلة ومستشاريهم وكورالاتهم التي لا تشفي غليل أبسط مواطن مغربي، فما بالك بانتليجيسيا الوطن…؟
من منا لا يصفق لوزارة خارجيتنا، وهي تكتسح المستحيل ليصبح ممكنا، بل وهي تحارب بشراسة أعداء مدججين بالأموال، بغية شراء الذمم محاولة منها الانتقام من أجل الانتقام، ما همها إن كان هذا الانتقام على حساب بطون أبناء جلدتها، بل ما همها أن تراهم يعيشون في غرغراتهم اليومية. ترى هل أصبحت السياسة اليوم تقاس اقتصاديا؟ أكيد نعم، وهي ليست بالجديدة، ومن أجل هذا خلقت الدبلوماسية الحداثية التي بها وعبرها تستطيع الدول أن تقنن من غطرسة الرأسماليين البشعين، وأصحاب الأعمال الذين لا يمكن لكائن من كان أن يتجاهل نفوذهم ونفادهم في السياسات الرأس مالية المتوحشة.. ورب متسائل قد يعتقد أن الدبلوماسية، هي التي نعتقدها جهالة أو تجاهلا تقتصر فقط على التمثيل السياسي للدول؟ هنا أعترف رغما عما قد يغضب البعض ممن القوا بدبلوماسيتنا في ماغما التفاهة، وتكون عاقبة الحصاد ما نعيشه اليوم واليد على القلب…إن الدبلوماسية ليست فقط التمثيلية للدولة، ولا حتى فذلكة إدارة شؤونها الخارجية في وعبر دول العالم؛ وواهم من يعتقد هذا الاعتقاد والتوجه الفاشلين حتى في مجرد التفكير فيهما بمثل هذا التفكير السطحي الصبياني.. نعم، كنا بل لا زال البعض منا يرى الدبلوماسية مجرد وسيلة خلقت وكأنها الوسيلة الوحيدة من أجل التواصل بين الناس، وخلق لغات سياسية قد تقي البشر من المعارك والسقوط في النزعات والحروب المجانية؛ وبالتالي تحقيق نوع من الكفاف في الحياة، التي تنزع نحو الاستقرار الآني. أكيد هذا وارد، ولا يمكن نكرانه، وإلا سنكون مثل الحيوانات التي تعيش في الأدغال؛ لكن الدبلوماسيات اليوم غير هذا وذاك، والحال أنها تعد مدرسة، حيث تدرس فيها فنون الدبلوماسيات الى درجة أننا أصبحنا نتكلم عن الدبلوماسية الناعمة، والدبلوماسية الموازية التي تتشظى منها الفنون الرفيعة التي ترفعها رافعة التواصل المطلق لا المقيد، الذي لم يعد له في زمننا مكان.
الدبلوماسية اليوم أصبحت عالما قائم الذات، حيث تجتمع فيها السلوكيات والأذواق التي تختلف من إنسان الى إنسان، ومن مجتمع الى مجتمع، وبالتالي من دولة الى دولة، وصولا الى الدبلوماسية، التي يجب أن تجد لها مكانا في العولمة، وإلا فمصيرها إلى زوال.. وحتى نكون منطقيين مع أنفسنا بعيدا عن الأنانية الضيقة، التي مع الأسف الشديد، نجدها رافعة خاوية مهترئة في العالم العربي، بل لدى العالم الثالث بشكل عام؛ ترى هل نرى لدبلوماسيتنا مكانا في حداثية الدبلوماسيات التي نجدها لدى القوى التي تتحكم في دواليب عالمنا المجنون هذا؟ وهل لدينا دبلوماسيين تخرجوا من معاهد عليا تدرس الدبلوماسية شأن الدول التي تحترم نفسها؟ أم عندنا مجرد حكومات تتوزعها أحزاب سياسية غالبا ما تفرض على المواطن تحت مظلة المال أو سميها أصحاب الأعمال، فتكون حكومات خارجة من أحزاب موبوءة؛ ومنها تفرز وزارات مكونة من ذات الأحزاب. وزارات توزع الحقائب بينها وعيون المواطن ترى ما لم تكن تنتظر أن تراه، والمصيبة ليست في تقسيم الوزارات فقط، بل في السعي إلى إرضاء ذات الأحزاب المكونة للحكومة، حيث توزع منها ذاتها وظائف دبلوماسية من السفراء والقناصلة؛ وهي وظائف يمكن أن ندخلها حين نقيم أنشطتها إن كانت لديها أنشطة في زمرة الموظفين الأشباح، ولنا في هذا الشأن أمثلة عديدة جعلتنا نخجل أمام الدول، وهي تشير إلينا بالبنان، وهذا ما يقع، بل وقع لنا في بعض البلدان من أشياء أكيد لا تدخل في الدبلوماسيات، بقدر ما تدخل في البؤس الدبلوماسي.. هكذا ترضي الحكومات أحزابها، موهمة الوطن وأبناء الوطن أن الدبلوماسية المغربية لها وزنها الكبير الذي يجعل من الدول الكبرى تكن لنا الاحترام، كما تجعلنا معشر المواطنين نرى بالعين المجردة حصيلة دبلوماسيينا، طبعا التعميم غير وارد، فهناك دبلوماسيين مغاربة لا يقعقع لهم بالشنان.. وعلى وزير خارجيتنا الذي أربك حسابات دول كنا نعتقد أنها صديقة، إلا أنها كانت وستبقى مع الأسف الشديد عدوة في بردة الحلاج، عليه اليوم وليس غدا، وبكل تأكيد، أن ينتقي دبلوماسييه بعيدا عن إرضاء الأحزاب التي أصبح المغاربة يكرهونها أصلا، كما عليه أن يخلق معاهد تدرس فيها الدبلوماسيات وليس الدبلوماسية التي بقيت تشرب من جب لم تزره المياه لسنين عددا..
وفي هذا الصدد، رب قائل سيتساءل انطلاقا من دبلوماسي اليوم: كيف يمكن لنا في زمن لا ترحم فيه السياسة دولا ما هي بدول، إذا ما قورنت بباقي دول العالم المتقدم التي لا يمثلها دبلوماسيا إلا الشخص الذي خلق أصلا من أجل أن يكون دبلوماسيا، وشب على الطوق كي يعمل في السلك الدبلوماسي الخالص، ناهيك عن الشخص الذي يجب أن تصنع منه الشخصية الدبلوماسية. إن المتأمل في دلالة وجوانية الدبلوماسية في غورها وجوانيتها، قد تجعلنا نميز بين الشخص الدبلوماسي، وبين الشخصية الدبلوماسية، ولهذه الأمور كلها اقترحنا منذ زمان بناء معاهد تدرس فيها الدبلوماسية بتلويناتها وأجناسها؛ وهذا ما سيجعلنا لا نخشى على الوطن من بعض دبلوماسييها الخارجين من قمقم الأحزاب، وارضائها على حساب مفهوم الدولة، التي يجب أن تكون قدسيتها على كف من تخرجوا فعلا من هذه المعاهد. وبالتالي، سننام قريري العين على شؤون الوطن، والحال أن صورته لا يمكن أن تتكسر بضربة لازب كما يقال.. فبالدبلوماسية المتينة والضاربة في عمق التكوين، لا يمكن لها أن تعبث بفلسفة تقييم الأوضاع، قبل التحدث عن بنائها السياسي، وبالأحرى لا يمكن لنا أن نخاف من دبلوماسيينا، وهم يقومون بتصرفات نابعة من أعماق ما تلقوه في معاهدهم من دروس كونية، مع احترام خصوصيات الدول التي أرسلوا اليها ممثلين لدولتهم، وبالتالي لن نخاف أيضا من اتخاذ القرارات، وتجاوز الصعوبات التي تحتاج إلى استشارة، والحال أنهم تلقوا تكويناتهم في الدبلوماسية مما يخول لهم بناء علاقات منطقية مع الآخر كائنا من كان.. ولعل تجاربهم وهم يمثلون دولتهم تكسبهم بكل تأكيد شخصية دبلوماسية تعرف كيف يمكن لها التواصل بشكل فعال وناجع واستراتيجي؛ ولعل هذا التواصل يجب أن يراعي عدة أمور لغوية اصطلاحية قبل الشروع في مناقشة قضايا حساسة لها قواميسها الدبلوماسية الخاصة، كما لها قنوات تعبيرية تختلف تماما عن التعابير المعتادة التي لا تؤطرها قواعد اللغة الدبلوماسية..
وهكذا يجب التنبيه الى أن ʺ الناس ليسوا متلقين سلبيين للفعل السياسي المتضمن فعلا لما هو دبلوماسي، وإنما هم منخرطون على نحو حيوي ومتزايد فيما يسمى ʺ السياسة الفرعية او الموازية ʺ؛ أي الحركات الاجتماعية المتجذرة، من قبيل الاحتجاج … على العولمة وتخريب البيئة على سبيل المثال لا الحصر، أو ارتفاع أسعار خدمات أو سلع ما.. ʺ هذا ما ينقصنا في المغرب، بل في باقي الدول التي يخيل إليها أنها في ملكيتها الخاصة بعيدا عن المساءلة، والمحاكمة العادلة التي ما فتئت السياسات الشعاراتية ترددها بشكل ببغاوي، والدليل ما يعيشه الوطن من شبه سكتات قلبية أتت ولا زالت تأتي على اليابس والاخضر، وما همها وضع البلاد بقدر ما أصبح تهمها المصالح الشخصية، وبشكل بشع لم تعشه البلاد عبر الحكومات المتعاقبة. ولا يختلف اثنان على أن الدبلوماسية الحكومية أصبحت مغيبة في واضحة النهار، فما بالك بالدبلوماسية التي تمثل البلاد خارج الوطن التي لا تعدو أن تكون انعكاسا للدبلوماسية الداخلية على غرار ما كتبه ʺلوكاتش * في نظرية الانعكاس.. والمثير للجدل أن من يفقدون حس المواطنة لا يدركون أن الناس لديهم إحساس عام بعدم الثقة في قدرة المؤسسات السياسية على المعالجة الفعالة للمشكلات العمومية في المناخ المعاصر اليوم، المتمثلة طبعا في بعض سماته في التفرقة الاجتماعية، وتكسير شوكة المؤسسات المدنية ( النقابات؛ الجمعيات؛ الأحزاب…)
إن الثقافة الدبلوماسية حين تفتقد في الدائرة السياسية الداخلية، علينا أن لا نتساءل حين تصلنا شرارات سفاراتنا وقنصلياتنا، والحال أن المنهجية السياسية مفقودة بدءا من انعدام التواصل الذي يعتبر ركيزة من ركائز الفعل السياسي، والأخطر في العملية السياسية التي تنعدم فيها منهجية التواصل، تبدو جارحة وغير مقبولة منطقيا حين تكشف عوراتنا في الخارج، والغريب في خضم هذا الغياب، لماذا نستغرب حينما نتجرع مآسينا حين سماع ما لا يرضينا، سواء أتانا من الداخل أو حتى من الخارج..ᵎ أكيد لا نقبل أن تلطخ سمعة البلاد، لكن في المقابل من حقنا أن نوجه اتهاماتنا وانتقاداتنا للحكومة التي تفرز لنا مثل هذه السلوكيات المرضية التي لا يقبلها منطق الدبلوماسيات الكونية..
وعطفا عليه، ما الذي جنته علينا في آخر المطاف سلوكات الحكومة المكونة من أحزاب لا تسيرها إلا الأهواء وحب الكراسي، وجعل الانسان المناسب في خبر كان، ليعوضه الانسان الخارج من قمقم ذات الأحزاب التي خرجت من صناديق الاقتراع.ᵎفماذا لو تكلمتᵎ أكيد لقالت لنا ما لم يقله مالك في الخمر؟
ترى لماذا لا يتسع صدر حكوماتنا للنقد البناء؟ وفي غياب تقبل هذا النقد، لماذا صمت المثقف ونسي أنه يحمل رسالة مقدسة في التوجيه وتقييم السياسات التي انزاحت عن ميثاقها الذي أبرمته الأحزاب مع المواطن إبان فترة الاستحقاقات؟ بل مع الأسف الشديد المثقف ذاته أصبح يشار اليه بالبنان على أنه ابتلع من قبل السياسة وأصبح لها بوقا، ومنهم من استهواه الكرسي ونسي الطين ساعة أنه كان طينا ولا يزال؟ أسئلة حارقة فعلا، حين تكون لنا شجاعة تقديم النقد الذاتي الغائب عن المثقف والحكومات والأحزاب المكونة لها، والمسؤول الذي عتا ثم جفا ثم اقمطر يا سبحان الله..ᵎ من منا يستطيع اليوم أن ينكر أن أخلاق الانسان السوي والجيد، هو السبيل نحو تحقيق الدبلوماسية الوازنة، والحال أن الشخص الدبلوماسي الناجح لا يمكن له مثلا مقاطعة الآخرين كما تمطرنا به شاشاتنا الناقلة للفرجة البرلمانية بغرفتين، وهم يتنابزون بالألقاب، بل يتفوهون بالكلام النابي، ونحن في حضرة أسرنا ونجوم في السماء تنظر ولا تسعفᵎ أما كان عليهم تجنب الشتائم احتراما لبعضهم البعض قبل التفكير في أن جلساتهم المباشرة تنقل على القناة الأولى المحترمة، وما همنا اذا تقبلها البعض الفاقدين أنفسهم لوازع الأخلاق، محافظين بذلك على صورة وهيبة المكان الذي من خلاله ظلوا صامتين دهرا وعاهل البلاد يخاطبهم في الدورات المعلومة إلا أنهم مع الأسف الشديد وكأن في آذانهم وقرا، فأي ازدواجية ورذيلة أكبر من هذه..ᵎ وإن كان كذلك فماذا سينتظر المواطن ممن هم في حاجة إلى إعادة التربية – عفوا أخنوش، كان عليك أن تخاطب هؤلاء لا المواطن المغربي- أخطأ أخنوش وصدق المواطن المغربي. ولهذا لا يستطيع نفسه التواصل مع من نعتهم بنعوت هم في حل منها، هيا اقرأ سياستك اليوم إنها أصبحت عليك حسيبا..ᵎ ترى لماذا أصبحنا لا نتحكم في عواطفنا، أقصد المسؤولين الذين يتولون شؤوننا؟ والحال أن الشخصية الدبلوماسية حتما عليها أن تكون قادرة على التحكم في أحاسيسها وعواطفها، بل في لغتها، ولا ترسلها على عواهننا لتلطم بها من جعلها مسؤولة عنه يوم كان يتودد إليهم مثل الحمل الوديع.ᵎ أكيد أن المقام يطول كي نسترسل في تقديم بعض القيم الأخلاقية التي من المفروض أن يتحلى بها السياسي والدبلوماسي على حد سواء؛ وهنا ونيابة عن زملائي الباحثين في الجامعات والمعاهد الوطنية أقول لرئيس الحكومة: إننا في خدمة مؤسساتكم البرلمانية بغرفتيها، وكذا دبلوماسييكم كي نعيد تكوينهم ونعلمهم طرق استخدام تقنيات تحليل الخطاب والخطاب المضاد، وكيف يتسنى لهم التمكن من التحكم في الأحاسيس، وادراك فلسفة الهدوء في مواطن لا تدعو الى الصراخ المجاني، وكيفية السيطرة على النفس الأمارة بالسوء، حتى لو تعرض الانسان لضغوطات لا تحتمل، وتمكينكم وبطانتكم من التوغل في تفاصيل أوضاع الآخر مهما كانت صعوباتها بغية اجتيازها بحكمة وتبصر والتمسك بحكمة : لا افراط ولا تفريط، خير الأمور أوسطها.. وصولا إلى محاولة اختيار الوقت المناسب للحوار الواعي والمسؤول حتى لا يزل اللسان لا قدر الله وغالبا ما يزل مع الأسف الشديد، وفي هذا النطاق يجب حقا إعادة التربية، لكن تربية من؟ هنا الإشكالية تبقى مفتوحة على أكثر من سؤال…؛ وهي أمور سقطت فيه دول برؤسائها – قيس سعيد أنموذجا -.. فما أحوجنا جميعا الى إعادة التكوين كائنا من كنا؛ بل ما أحوج الدول عامة، ودول عالم الثالث خاصة، الى مثل هذه المبادئ التي تبنى بها السياسات الواعدة، والحال أننا أصبحنا في وطننا نعيش وعكات سياسية تشظت من قمقم رجال الأعمال وبعض المتسولين السياسيين الذين يؤمنون بالشيء ونقيضه، ولا يحرجهم البتة هذا لأن الأصل في إيمانهم الوصول الى الكرسي ليس إلا، أما الباقي فإلى الجحيم…
* جامعة ابن زهر أكادير