محمد فارس
بعد الـمَقالة السّابقة عن الحِكمة والحُكماء الذين تحتاج إليهم كلُّ أُمّة توّاقة لغدٍ أفْضل وأَرغد، لابدّ أنّ القارئ الكريم ينتظر منّي إعطاءَ أمثلة تاريخية عن هؤلاء الحُكماء قديمًا وحديثًا، وكأمثلة عن الحُكماء قديمًا، سأجتزِئ قصّةً من القرآن الكريم.. فحسب نظري فإنّ كتاب الله عزّ وجلّ ينقسم إلى ثلاثة أقسام: (1 السّوَر الشّرعية؛ (2 السُّور الكوْنية التي لا يقْوى على تفسيرها إلاّ علماء الفيزياء، والكيمياء، والفلك، وغيْر ذلك؛ (3 القَصَص، ومن القصَص اخترتُ لكم قصّةَ حكيم، استنجدَ به حاكمٌ لإنقاذ أمّتِه أيام عُسْرٍ وبلاء أصابها، كيف ذلك؟ جاءت شهادةُ امرأة [العزيز] مُبرِّئَة لسيّدنا [يوسف] عليه السلام من الذّنوب، ومُنزِهَةً له عن الأغراض والعيوب، وظاهِرُ هذه الشّهادة ما رواهُ السّاقي من سيرتِه في السِّجن، وما شهِدَه عليه من صبْر يجمِّله الحلم، وعِلْم يزيِّنُه التّواضُع، وما خبره الملكُ من حُسْن التّأويل، وإحكام التّدبير، وما لحظه فيه حينما دعاهُ للخروج من سِجنِه، فأبى إلاّ أن يَخرُجَ بريئًا..
هذه الأخلاقُ الكريمة، والشّيم الحميدة، أثارتْ عند الحاكم رغبةً صادقةً في أن يُقرِّبه إليه، ليكون في حاشيته، زعيمًا في بطانتِه، فمثلَ بيْن يديْه، فألفاه حصيفًا، حكيمًا، عاقلاً رشيدًا، حتى طابقَ فيه الـمُخْبِرُ الخبَر، والسَّمع، والبصَر.. قال [الملكُ]: يا [يوسُف] إنّ ما تجمّلتَ به من هذا الخُلُق الكريم، وما خَلّفتَه وراءَكَ من ذِكر عطِر، وماضٍ زاهر، وما نطقتَ به من علمٍ راجح، وعقلٍ حصيف، كلّ ذلك رفَع عندي مِقدارك، وأعلى مقامَك، وإنّك منذ اليوم أميـنٌ على هذه الدّولة تعمل لخيرِها، وتقوم على إصلاحِها، مكين فيما تَصْنَع، مفوض فيما تريد.. لكنّ [يوسف] كان يعْلم أنّ الأمّةَ مقبلة على أيام عُسْر وأيام بَلاء، وأنّ المياهَ ستقلّ، والأرضَ ستجدب، والرّفدَ سيكُفّ، وستعمُّ أزمةٌ طاحنة وظروفٌ قاسية، وأنّه لابدّ لـمَن يلي أمورَهم، ويدبِّر شؤُونهم، يجب أن يكنَ بيدِه زِمام المال، وعنده مفاتحُ خزائِن الدّولة ليقيها السّرقات والفساد، إذِ المالُ عصب الأمّة وقِوامُها، ولُبُّها ومُصاصُها، فأراد أن يمتلكَ الزّمام الذي يستطيع أن يقودَ به الأمّةَ إلى خِيْرها، وأن يُمسِك بالدّفة التي يستطيع أن يسيِّر بها سفينتَها، فقال للملك: إنْ أردتَ أن أكونَ مسؤُولاً عن هذه الأُمة، مُحاسبًا عن تدبيرِ شؤُونها، فاجعلْني أمينًا على خزائنِها، وزيرًا لأموالها، وستجد الأمّةُ من صلاح الأعمال واطِّرادِ الأحوال في العُسْر واليُسْر والرّخاء والبلاء.
قد يقاطِعُني القارئُ الكريم قائلاً: إنّ [يوسف] كان نبيّا معْصومًا وحكيمًا لنبوءَتِه! وجوابي هو: أوّلاً في هذه الفترة، لم يكُنْ [يوسف] نبيًا بعْدُ؛ ثانيًا، فإنّ الله عزّ وجلّ، لم يَربِط الحِكمة بالنّبوة بصريح كتابه الكريم بأنّ الله يهبُ الحِكمة لمنْ يشاءُ من عبادِه، فهلِ الذين خدموا أوطانهُم، وقدّموا بلدانَهم كانوا أنبياء؟ الجواب: كلاّ! بل كانوا أفرادًا، حُكماء.. أضحى [يوسف] بيْن عشية وضحاها وزيرًا مطْلقَ اليد، مسموعَ الكَلمة، وقد كان بالأمس سجينًا، أسيرًا، ومن قبْلُ غُلامًا يُباع ويُشْترى، ويُسْلب ويُعْطى.. وُلّيَ [يوسفُ] الأمْرَ في [مِصْر] سبْع سنوات، جادَ فيها النّيلُ، وأغلّتِ الأرضُ وصارت خضراء مثْل [المغرب الأخضر] بفضل حُكومة السّيد [أخْنُوش] الحَكيمة، فأَسْهل عيْشُهم، وامتدّ خيرهُم، وتفيّؤُوا في ظِلال الراحة والنّعيم، وانْمحتْ إكراهاتُ السّنوات العِجاف بفضل مُخطّط [يوسف] الوزير الحَكيم، والحاكم اليَقِط، والمولى الفطِن الأريب؛ بنى الدّولةَ، وأعدَّ المخازِن، وملأَها بالغلاّت الوافِرة، والخيرات الكثيرة، وحرِصَ على أموال الأمة من السّرقة والتّبذير، لكنّ القَحْطَ امتدّ إلى ما جاورَ [مِصْر] من البُلدان، ومسَّ ما حوْلَها من الأقطار، حتى وصَل إلى [كنْعان]، لكنْ سطعَ ذِكرُ [يوسف] في الآفاق والأصقاع، وشاع ذِكرُهُ بين الناس بأنّ في [مصْر] وزيرًا حكيمًا، يزرع الحِنطة بيْن الناس، ويوزّعُها بميزان عادل، يقضي الحوائجَ بقسطاس، لا يفرِّق بيْن هذا وذاك من أبناء الشّعب، ولـمّا جاءَه خبرُ السّماء بأنّه صار نبيًا، قال: [ربِّ قدْ آتيْتَني من الـمُلكِ، وعلّمْتَني من تأويلِ الأحاديث، فاطِر السَّماوات والأرض، أنتَ وَليِّي في الدّنيا والآخرة، تَوفَّني مُسْلِمًا وألحقْنِي بِالصّالحين].
هكذا يكون رئيسُ الحكومة، وهكذا يكونُ الوزيرُ الوطنيُ الغيور، الذي يحبُّ وطنَه، ويحبُّ ملِكَه، ويخدُم أمَّتَه، لا الوزير المستبِدّ الذي يخفي ضُعْفَه، ويبرّر فشلَه بقوْله: ليس لي عصًا سحرية، ثم يستأسِد على الشّعب بقرارات جائرة، فيُحدثُ في الأنفُس غيْضًا، وضَيْمًا وجروحًا غائرة؛ فساكنةٌ مغربية تِعدادُها (34) مليون نسمة، لابدّ أنّ الله جلَّ جلالُه قد جعلَ فيها حُكماء، وعُقلاء، ولكنّهم هُمِّشوا، ونُبِذُوا بسبب أحزاب تفرضُ على الأمّة أفرادًا يبحثون عن الامتيازات، ويُقْتَرحُون للوزارات ككفاءات، والكفاءةُ منهم براء، براءة الذِّئب من دَمِ ابن يَعقوب.. ها أنتَ تَرى على ما أسفَر عنه النّموذجُ التّنموي، وكيف حُلّت مشاكلُ التّعليم، وكيف صارت أمورُ الصّحة، وإلى أيِّ مستوىً تَدَنّتْ أزمةُ السّياحة، وكيف شَحبتِ الأرضُ بسياسة (المغرب الأخضر) حتى صارتْ كلمة [ديمُكْراسي] تَعني فقط [دهماء الكراسي]، وصدقَ جلالةُ الملك [الحسَن الثّاني] طيّبَ الله ثراه: [نحن بِحاجة إلى أولاد النّاس]..