تستعد المفتشية العامة للإدارة الترابية التابعة لوزارة الداخلية، خلال الأسابيع القليلة المقبلة، لإيفاد لجان تفتيش إلى عدد من الجماعات الترابية، بغرض التدقيق في ملفات صفقات عمومية مشبوهة أنجزت في إطار برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، وذلك في أعقاب تقارير توصلت بها المصالح المركزية كشفت عن شبهات قوية تتعلق بتورط مسؤولين جماعيين في استغلال نفوذهم للاستفادة من مشاريع بالمليارات.
وتشير المعطيات الأولية، بحسب ما كشفته مصادر مطلعة، إلى وجود مؤشرات واضحة تفيد بإسناد عدد من الصفقات العمومية إلى شركات يملكها أو يديرها مسؤولون محليون، رغم لجوء بعضهم إلى تقديم استقالات شكلية من هذه الشركات في محاولة للتحايل على القوانين المنظمة للصفقات العمومية، وعلى رأسها مرسوم الصفقات الذي يمنع أي وضعية تنطوي على تضارب المصالح.
ويبدو أن دائرة الشبهات اتسعت لتشمل حالات تبادل مشبوه للصفقات بين مسؤولين بجماعات ترابية مختلفة، حيث تعمد بعضهم إلى منح صفقات لمقاولات على صلة بمسؤولين في جماعات أخرى، مقابل حصولهم بدورهم على امتيازات مماثلة في مناطق نفوذهم، مما يشير إلى وجود تنسيق ممنهج للتحايل على القانون وإبعاد الشبهات.
كما كشفت التقارير ذاتها عن حالة مسؤول ترابي أقدم على فك الارتباط القانوني مع شركة كانت تحت قيادته، بهدف الالتفاف على مسطرة تضارب المصالح، لكنه في الواقع حافظ على تحكمه في التسيير من خلال تفويض المهمة لأحد المقربين منه، في مشهد يعكس تعمّد التحايل على النصوص القانونية التي تشترط على المتعهدين في الصفقات الإدلاء بتصريحات بالشرف تؤكد خلوهم من أي ارتباطات مصلحية قد تؤثر على نزاهة الصفقات.
وفي حالة أخرى، استفادت جماعة ترابية من تمويلات ضخمة قدرت بالمليارات لتنفيذ مشاريع موجهة لتقليص الفوارق المجالية، إلا أن أغلب هذه المشاريع أنجزت من قبل شركات على ارتباط مباشر بمسؤول نافذ داخل الجماعة نفسها، ما يطرح علامات استفهام كبرى حول شفافية تدبير الصفقات واحترام مبدأ تكافؤ الفرص.
وتفيد المعلومات المتوفرة أن عدداً من المنتخبين المحليين لجؤوا إلى تأسيس شركات بأسماء أقاربهم أو شركاء مقربين، وتمرير الصفقات لها بعيداً عن أي منافسة حقيقية، من خلال وضع شروط تقنية وإدارية مصممة بعناية لإقصاء المنافسين الحقيقيين وتمهيد الطريق أمام مقاولاتهم المفضلة.
هذه الممارسات دفعت عدداً من المقاولين المتضررين إلى التقدم بشكاوى لدى اللجنة الوطنية للطلبيات العمومية، مشيرين إلى هيمنة مقاولات بعينها على عدد من الصفقات، مستفيدين من علاقات خاصة تربطهم بمسؤولين جماعيين في مناطق متعددة.
وتأتي هذه التطورات في وقت أعلن فيه وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، خلال جلسة برلمانية بمجلس المستشارين مطلع السنة الجارية، عن تقدم ملحوظ في تنفيذ برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية للفترة ما بين 2017 و2023، حيث تم إنجاز 8170 مشروعاً من أصل 10,939 مبرمجاً، أي بنسبة إنجاز بلغت 75 في المائة.
وتوزعت هذه المشاريع على عدة مجالات حيوية، أبرزها قطاع الطرق والمسالك القروية بـ2511 مشروعاً، والتعليم بـ1981 مشروعاً، والصحة بـ1462 مشروعاً، إلى جانب مشاريع في مجالات الكهربة القروية (273 مشروعاً) والماء الصالح للشرب (943 مشروعاً).
غير أن هذه الإنجازات التنموية، التي يفترض أن تكون موجهة لتحسين أوضاع الساكنة القروية والهشة، باتت اليوم محط تشكيك واسع بسبب شبهات الفساد وسوء التدبير التي تحوم حول طرق تفويتها وتنفيذها، وهو ما يستدعي تدخلاً حازماً من الجهات الرقابية والقضائية لوضع حد لهذه الاختلالات وضمان احترام القانون وتكافؤ الفرص.