محمد فارس
فمَنْ هو هذا الفيلسوف الثّائر على الظّلم، والشّطط، وكثرة الضّرائب، ومُصادرة أراضي وأملاك المواطنين، ومَنِ استاء كان مصيرُه السِّجن؟ من هو هذا المتمرّدُ الذي صار من الخالدين في تاريخ [الولايات المتّحدة الأمريكية]؟ إنّه الفيلسوف [هنري ديفد ثُورو]، وُلدَ سنة (1817) ومات سنة (1862) وهو في الخامسة والأربعين من عمُره.. اتّهمتْه الحكومةُ بالتّطرف، وهي التّهمةُ الجاهزةُ دائمًا بحقّ كل من صدَح بالحق، واستنكر الظلم، وانتقد السّياسات الجائرة.. إنّ [ثورو] قد دَفع فكرة استقلال الفرد إلى أقصاها، فقرّر أن يكون للفرد الحقُّ في انتقاد الحكومة وعَزْلها في رسالة عنوانُها: [مقالة عن العصيان المدني]، وهنا نراه يلتقي مع [لوك] في إمكانية وأحقّية الشعب في عزْل حكومة لا تستجيب لمطالب شعبها.. لقد أخرج هذه الرِّسالة بعد أن شهد حكومتَه تنحرف عن العدالة والحقّ، وذلك في حرب [المكسيك]، وفي مسألة العبيد، وفي معاملة الهنود الحمر، سكّان البلاد الأصليين، فرفضَ أن يدفع الضّريبةَ للحكومة، ليُعلنَ احتجاجَه بصورة عملية واضحة، فسُجِن من أجل ذلك..
تقَدّم نفرٌ من أصدقائه، ودفعوا عنه الضّريبة فأُخليَ سبيلُه، لكنْ بقيتِ المشلكةُ قائمة وهي: هلْ لِلْفرد حقّ الامتناع عن دفع ضرائبه للحكومة إذا وجدها قدِ انحرفتْ عن الحقّ والعدالة؟ في رأيِ [ثورو] إنّ لِلمُواطنِ هذا الحقّ، لأنّه منطوٍ تحتَ سُلطان الحكومة باختياره، وعلى شروط معيّنة، وباختياره يستطيع الانسلاخَ عنها إذا أَخْلَت بشروط التّعاقُد.. ومن طريف ما يُروى في هذا الصّدد أنّ الفيلسوف [إمِرْسَن] وكان معاصرًا له وقْتَها، زاره في سجنه، فسأله قائلاً: [هنري! ماذا تصنع هناك داخل القضبان؟]؛ فأجابه [ثُورو] قائلاً: [وَالْدُو! ماذا تصنع أنتَ خارج القضبان؟]، وكان يعني بذلك أنّ [إمرسَن] وكلّ فرد ممَّن يؤمنون بحقوق الإنسان، لا يجوز لهم أَن يستسلموا لحكومة تجنَح عن طريق الصّواب..
رأى [ثورو] أنّ للحكومة مُطبِّلين، يُعْلون من شأنِها، ويغضّون الطّرف عن جوْرها، فقال: [الكذبُ الذي خلْفَنا، والكذبُ الذي أمامنا، لن يكونَ بذي أهمّية إذا ما قورن بالكذب الذي يُعَشْعِشُ في صدورنا]؛ وهذا ما نراه اليوم في بلدِنا [المغرب] حيث المواطنُ المقهورُ يؤدّي الضّرائب، فيما وزراء، وبرلمانيون، وأثرياء لا يؤدُّونها، فلا يساءَلون، ولا يحاسبون ، ولا أحدَ يثير هذه المسألةَ إطلاقًا في أيّة مؤسّسة، أو إدارة، أو صحيفة جادّة.. فالحكومة تعمل دائمًا على القضاء على الصّالحين من الرّجال، وأحطُّ الرّجال هم الذين يديرون شؤُون البلاد، ويَسيرون بها من سيِّئ إلى أسوأَ، فترى [ثورو] يخاطب الحكومةَ مباشرةً فيقول بصراحة: [اِسْمَعي أيّتها الحكومات! إنّكِ حين ألقيت القبض على الأفذاذ من الرّجال، وجززْتِ بهم في السّجون، فلم تَفْعلي بذلك شيئًا سوى أنِ ارتَكبْت جرمًا شنيعًا، وأمّا رؤُوس الفساد، فلم يُصبْها الأذى]..
ويَستطرد فيقول: [لا ينبغي أن تعلّموا الناشئة احترامَ القانون بقدر ما يجب أن تعلّموهم احترام الحقّ].. هكذا كان يكتب [ثورو]، فتجيء كتاباتُه قبسَات من قلبه الحسّاس، ومدار تفكيره، وكما ترى، هو أنّ لِلمواطن حقّ عَزْل حكومة جائرة، وله أن يمارس هذا الحقّ حيثما وقَع من الحكومة ما ينفِّر منه ضميرَه.. إن حقّ عزْل حكومة ظالمة، لم يزُلْ بزوال الثّورة الاستقلالية التي قام بها الأمريكيون جماعةً في القرن الثامن عشر؛ إنّه حقٌ يظلّ قائمًا أبدًا، والعجيبُ أنّ [ثورو] في ثورته هذه على الحكومة التي قال إنّها أجحفَت وضلّتِ السّبيل، لم يكُن صادرًا عن أذًى لحِقَ بشخصه أو ظُلمٍ أحاقَ بصالحٍ من صوالحه، وإنّما كانت ثورتُه لِـمَا لحِقَ غيْرَه من صنُوف الإجحاف؛ كانت ثورتُه في سبيل غيْرِه من الفقراء، والمسحوقين، فالأذى قد أحسَّه هو في لدغ ضميرِه، فكان لا يقصّر واجب مقاومة المواطن لحكومتِه الجائرة على مصالح ذلك الـمُواطن المقهور، وهو جورٌ مسَّ، مسّا مباشرًا ذلك المواطن المقموع.. لقد جعَل [ثورو] المقاومةَ واجبة حيثُما وقعَ من الحكومة طغيان، بغضّ النّظر عمّن نال منه ذلك الطّغيان، ورُبّما كانت المقاومةُ أَوجب إذا ما أُنزِل الطغيانُ ببلدٍ أجنبيٍ وقوْم غرباء.. نبذَ [ثورو] بصوفيته زُخرفَ الحياة، وزينتها، فلا المالُ يُغنيه، ولا الجاهُ يغريه؛ اتّخَذَ مكانًا قصيًا في غابة، وعاش في كوخ، ومات في عزلة سنة (1862) وهو في (45) من عُمره، وظلّ من الخالدين عبْر التّاريخ..