محمد عفري
من يعيش في الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمملكة ومن يحط الرحال بها عابرا أو سائحا بمناسبة عيد الأضحى، يحس المفارقة التي تصبح عليها هذه “الميتروبول” صباح كل عاشر من ذي الحجة، وهي التي أمست ليالٍ وأيام الحوْل فيها، على شكل مغاير، صخب في صخب وحركة منقطعة النظير.
ما إن تنتهي ساكنتها من أداء فريضة الأضحية وما يرافقها من طقوس الذبح والسلخ و”حرق” رؤوس الأضاحي والتخلص من نفايات الأشلاء حتى تستسلم المدينة إلى سكينة لا تضاهيها سكينة.
الدار البيضاء، قلب المغرب النابض الذي لا تهدأ له حركة ليل نهار، تعيش في الأيام العشرة الأولى التي تسبق العيد حركة أخرى استثنائية بكل المقاييس، لكن الاستسلام إلى شهوة الهدوء له ما يفسره، لذلك يصح على العاصمة الاقتصادية خلال الأيام الثلاثة لعيد الأضحى ما قاله الشاعر الكبير محمود درويش بمناسبة من المناسبات تفتقت فيها قريحته حول الهدوء والسكينة ونقيضيهما، ليبقى قولا هادفا ومشهورا “في الهدوء نعيم وفي الصمت حياة، وما بين الاثنين تفاصيل لا أحد يدركها”.
معروف على الدار البيضاء أنها حاضرة كل المغاربة الذين هبوا إليها ودبوا عبر عقود وسنوات، من كل حدب وصوب وأنها مدينة كل الأنشطة الاقتصادية، فلا غرابة أن تكون ساكنتها النشيطة من الذين إذا حل العيد عادوا إلى الأصول لقضائه بين الأهل والأحباب. الإحصاء العام الأخير للسكان والسكنى (2014) يؤكد أن أكثر من ثلث ساكنتها وافدون. لا غرابة أيضا إذا كان في هجرة مؤقتة مساهمة كبيرة في هدوء وسكينة عابرين ليس إلا..
أكبر مدينة مساحة وأكثرها تعدادا سكانيا في المغرب والمغرب العربي وأشهرها من نار على علم في إفريقيا والشرق الأوسط وغيرها، تستسلم فجأة إلى هدوء غير معتاد تستعيد من خلاله الحياة بعضا من ألقها وذلك بعد حركية عيد الأضحى المطبوعة بالحرف الموسمية المختلفة التي ترتبط بعمليات التسويق وبمستلزمات هذه المناسبة الدينية، وبيع أعداد كبيرة من الأكباش وذبحها، العاصمة الاقتصادية التي تتغير فيها الحياة الاقتصادية والاجتماعية تماما، مباشرة بعد أول أيام عيد الأضحى، فيعانق الناس أجواء مختلفة قوامها قلة النشاط الاقتصادي والخدماتي مع الارتماء في أحضان ما هو اجتماعي من عادات وتقاليد تطبع هذه المناسبة الدينية.
الحياة في الدار البيضاء خلال الأيام الثلاثة لعيد الأضحى التي تستمر إلى أكثر من أسبوع تستمر بشكل عادي لكن في غياب تام لمظاهر الحركة الكثيفة والصخب الذي يميز عادة هذه المدينة طوال السنة، لأن التنمية تتطلب نمطا معينا من الأنشطة التي تقتضي منسوبا كبيرا من الاشتغال والتنقل.
عيد الأضحى وعاداته تنطوي بالضرورة على لزوم المنازل في كثير من الأوقات، وهو ما يجعل الفضاءات العمومية تستعيد بعضا من مساحاتها وهدوئها، والذي تكسره في بعض الأحيان تنقلات أسر وأفراد راكبين أو راجلين من أجل زيارات عائلية تارة، والتفسح في فضاءات الشواطئ أو الحدائق تارة أخرى.
الهدوء، إذن، يطرد الصخب شر طردة خلال هذه المناسبة في العاصمة الاقتصادية، ولو لمدة قصيرة، إذ يصبح الهدوء صديقا للناس وضيفا مرحبا به لكونه ينشر بعض السكينة والهناء محل ما ينشره طوال العام من ضجيج بسبب زعيق العربات وصراخ الأسواق واكتظاظ الفضاءات العمومية ومختلف شرايين العاصمة الاقتصادية.
أيام عيد الأضحى في الدار البيضاء تتعلق في عمقها باستراحة محارب أعيته الحركة وتموجات الحياة الاقتصادية والتجارية والخدماتية والاجتماعية والبيئية وشقاوتها بهذه المدينة التي تعج بساكنة كبيرة ونشاط كثيف. فعيد الأضحى يحمل معه أفراحا تغطي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، وأيضا فرحة الهدوء المريح، لأن العديد من الفضاءات تتحرر مما يزعجها ويؤرق الساكنة التي تتضايق من بعض الاختناقات، وهي من بين المشاهد اليومية العادية في مدينة تحتضن كل من يبحث عن فرص للدفع بعجلة حياته إلى الأمام.
هو هدوء عابر مهما طالت أيامه، سيتكسر على عودة أول “ساكن” من عطلة سنوية قضاها بين أهله في الأصول، لتعود الحركة بكل ما فيها من صخب وضجيج وحياة، حياة الدار البيضاء.