في الأزمة الأخيرة، التي تدور رحاها في أوروبا الشرقية بين أبناء العم، روسيا وأوكرانيا، أبان المغرب عن الروح العميقة للديبلوماسية التي يقودها جلالة الملك محمد السادس لتفادي مطبات السير، وأكد المغرب أنه دولة ذات سيادة تميز بين المبادئ والمواقف، ورغم التداخل بين الاثنين فإن المبادئ تنبني على الثقافة السياسية والقانون الدولي، وهي الثابت في العملية، حيث أكد المغرب منذ على رفضه لتقسيم الدول وأدان النزعات الانفصالية تحت أية ذريعة كيفما كانت، والمواقف مبنية على التوجهات وعلى تحقيق مصالح البلد التي لا يعلو عليها شيء.
اختار المغرب عدم المشاركة في التصويت، وليس الامتناع عن التصويت أو التصويت بنعم أو التصويت بلا، وهي قضايا مختلفة، فعدم المشاركة في الأعراف الديبلوماسية رسالة ذات خلفيات، مناقضة للمشاركة بالامتناع أو نعم أو لا. الثلاث الأخيرة تعني أنك معني بالموضوع وتتخذ منه موقفا. المغرب معني بما هو دولة في هذا العالم وعضو في المنتظم الدولي لكنه غير معني بهذا الصراع، الذي لا ناقة له فيه ولا جمل.
الصراع الدائر حاليا هو صراع كسر إرادات قوية بين محاور كبرى، وأي موقف سيؤثر على مسار المغرب، وبالتالي اختار موقف عدم المشاركة وهو يعني أنه غير معني بالصراع ولن يكون في جهة من الجهات.
ورغم أن بيان وزارة الشؤون الخارجية تحدث عن عدم تأويل موقف المغرب، ولكن حقيقة المواقف الديبلوماسية كلها بدون استثناء خاضعة للتأويل، وما قلناه أعلاه هو تأويل أيضا وفق قراءة معينة للموقف، كما أن المغرب ومن خلال هذا الموقف وجّه رسائل متعددة وفي اتجاهات مختلفة.
فالمغرب ليس بلدا خاضعا ولا تابعا وهو حر في اصطفافاته ومن حقه أن يتخذ الموقف الذي يراه مناسبا ولا يضر بمصالحه، وأن الموقف الذي تفرضه المبادئ لا مساومة فيه مثل رفض تقسيم الدول، لكن الانخراط في جملة صراعات بعيدة عنه فليس من اهتماماته، مهما كانت أطراف الصراع.
الموقف الحالي أعاد المغرب إلى مربعه الأصلي وهو الانتماء لعدم الانحياز لأي من أطراف النزاع، فكون الولايات المتحدة شريك استراتيجي للمغرب فإنه لم يدخر فرصة لتعزيز علاقاته بالصين الشعبية وفيدرالية روسيا الاتحادية، خدمة لمصالحه العليا.
أما ثاني الرسائل فهي أنه لا يمكن أن يبيعكم المغرب كل “بيضه” ويدافع عنكم في وقت ما زالت مواقفكم متذبذة من قضية الصحراء المغربية، ولا تعدو كونها مواقف مبنية على الاستفزاز وتحقيق المنافع لكم، واليوم يضع المغرب “البيضة في الطاس”. إذا أردتم أن أكون معكم فلأكن في كل شيء وليس في المواقف التوريطية فقط.
نعتبر أن الموقف الذي اتخذه المغرب قمة في الذكاء السياسي في جغرافية تتميز بالتحولات الكبرى ولا ترسو على بر وفي خضم تقلبات لا يعرف أحد مداها بمن فيهم من هم منخرطون فيها بالنظر للتطور التقني الكبير الذي ولج الحرب من بابها الواسع.