محمد فارس
كانت كرةُ القدم تُستعمل لإلهاء الشعوب، وإخفاء واقعٍ مُرّ، فلو دقَّقتَ النّظر، وراجعتَ التاريخ، لألفيتَ بسهولة أنّ الأنظمَة الدّكتاتوريةَ هي مَن أحرزَت كأسَ العالم منذ أن اخترعه الفرنسي [جول ريمي]؛ ففي سنة (1930) أحرزتْه [الأوروغواي]، وكانت نظامًا ديكتاتوريًا؛ وفي سنتَيْ (1934) و(1938) أحرزتْه [إيطاليا] الفاشية؛ وفي سنة (1950) نالتْه مرّةً أخرى [الأوروغواي] الدّيكتاتورية؛ ولا غرْوَ إنْ رأيتَ [فرانكو] يجعَل من كُرة القدم أفيونًا في [إسبانيا] حتى صار المواطنُ يلْهو بالكُرة كطفلٍ صغير، وكلّ فوزٍ في مقابلة في كرة القدم، كان [فرانكو] يقارنه بانتصاراته في الحرب الأهلية ضد الشّيوعيين الحُمْر.. وفي [الأرجنتين] خلال حُكْم العسْكر سنة (1978)، كانت مباريات كأسِ العالم تقامُ في ملاعِبَ توجَد تحتها زنازنُ لِلتّعذيب، فيخفي صوتُ الجماهير المتهلِّلة، أنيـنَ التّعذيب في الأسفل، والـمُلاحِظ يَنشغل بالظاهر، ولا يَعرف الباطِن، فكانت تلْكُم مهمَّة الكُرة في بلدان العنف والاستبداد..
البرجوازيون واللّيبراليون وذَوُو الثّراءِ الفاحش لم يكُونوا يَهتمّون بكرة الشّعوب الفقيرة، وهي رياضةٌ لم تكُنْ تتطلّب تجهيزات مثْل [التّنس] و[الخُيول] مثلاً، وهي مسابقاتٌ تبثُّ مجّانًا لقلّة المهتَمّين بها، ولكن لما بدَتِ الكرةُ كأَفيون الشّعوب، عندها فقط، اهتمّ بها الأغنياءُ ليستغلّوا بها المجتمعات كما تستغلُّ اقتصاديًا وسياسيًا، فصارت مثلاً [اَلْفيفا] و[الكاف] بمثابة [Conglomérat] مَافْيُوزيَة يشكِّلهما لصوصٌ، وسماسِرة، ومُضارِبون، وأنتَ تَرى الآن، أنّ رئيس [الكاف] عُزِل من منصبه وأعني به [أحْمَد أحمد] لأنّه لم يعْرِف كيف يُخفي فسادَه، فتمّ التّخلّي عنه لأنّ [مافيا] الكُرة غضبتْ عليه وحمّلتْه المسؤولية، وأنتَ تعْلَم الآن من يشكّل زُمْرة [الكاف] الفاسدة، فجلُّهم فاسدون ولا علاقة لهم بالكُرة.. و[الفيفا] فسادُها قديم، ولكنّه تفاقمَ مع الزّمن لـمّا تَركَها النّزهاء، فَفُتِح المجالُ أمام الفاسدين مثْل رئيسها الهالِك [هافْلانج]، ثمّ خلفَه رئيس لا علاقةَ له بالكُرة إطلاقًا وكان فاسدًا؛ ثم خلفَه من هو أَفْسَدُ منه وهو السّمسار المعروف [إينْڤَانْتينُو] الذي يريد تنظيم كأس العالم كلّ سنتيْن لِـما لذلك من أرباح مذْهلة..
إنّ الذي يهمُّنا ههُنا هو القارة الإفريقية التي تفْرض على شعوبها دَفْع مبالغَ طائلة لـمُشاهدة منتخباتِها، والسّؤال المطروحُ هو: هلِ القارةُ الإفريقية والحالةُ هذه مستقلّة؟ الجواب: كلاّ! [إفريقيا] قارة تركَها الاستعمارُ منكوبة، وقبْل رحيله جعل على رأْسِ شعوبها طغاة يخدمون مصالحَه، ولغتَه، وثقافتَه؛ وبعْد الاستعمار الغاشم، جاء استعمارٌ اقتصادي وهو [البنك الدّولي] و[صندوق النقد الدولي]، فحوّلاَ الفلاحةَ المعيشيةَ إلى فلاحة تصديرية، وصارتِ الشعوبُ تستورد من الخارج ما كانت تنتجه في أراضيها الفلاحية، وأصبحتِ القارةُ تعاني المجاعةَ رغْم وفرة الأمطار الاستوائية، بل صارت رهينةً عند المؤسّسات النّقدية بسبب الدُّيون المتراكمة، فبرزَت ظاهرة الهجرة السّرية، وكلّ يوم تنالُ أسماكُ القِرش قسْطَها من اللُّحوم البشرية الإفريقية، كما برزتْ ظاهرةُ الإرهاب، وأصبحتِ القارةُ عاجزةً تماما، ولكنْ توالتِ الانتخابات المفَبْركة ضمْنَ ديمقراطية وهمية ليبقى الديكتاتورُ لسنواتٍ طوال في كرسي الرّئاسة، والغربُ يصفُه بالدّيمقراطي ويَحْكُم بنزاهة الانتخابات المغشوشة..
والآن، حلّ استعمارٌ آخر لا يقلُّ استغلالاً عن الآخرين، وهو متمثّل في نقل مباريات كأس إفريقيا للأمم، وليس بمقدورِ دولة إفريقية نقْل مقابلة واحدة إلى شعبها إلاّ بعْد الدّفع، أو كم حاجة قضيناها بتركِها؛ فهل هذه المنتخباتُ المتبارية إفريقية حقّا وصِدْقًا؟ الواقع يجيب: كلاّ! هذه المنتخباتُ هي مِلْكٌ لمافيات تستغلّ الشّعوب بكرة القدم.. هل لهذه الشّعوب قيمة، ومن أموالها يُنْفَقُ على هذه المنتخبات؟ الجواب: كلاّ! هل هذه الدّولُ تمارس استقلالَها وتنقُل للشعوب الإفريقية مباريات منتخباتِها مجّانًا؟ الجواب: كلاّ! فهذه المنتخباتُ صارتْ في ملْكية مافيات النّقل التّلفزي المؤدّى عنه.. لكنّ السّؤال هو: من ذا الذي جعَل هذه المنتخبات في مِلكية هذه المافيات؟ الجواب: [الكاف] التي تبيع منتخبات الشّعوب لمستغلّي الشعوب، وأنتَ تَعرف من يشكّل مافيا [الكاف]؛ هُم أناسُ مالٍ وأعمال، ولا علاقةَ لهم بالرّياضة أصلا، ولكنّهم دخلوا ميدان الكُرة، لأنّهم رأوا أنّه ميدان مربح، وهمُّهم هو الربح و[إفريقيا] كانت وما تزال مرتعًا للاستعمار، والجراد، والتّصحّر، والإرهاب، وكلٌّ يجد فيها مُبْتغاه… ومع ذلك، تجد [الطّبالة] يتحدّثون عن كأسِ أُمم إفريقيا، وعن أيِّ كأسٍ يتحدّثون؟ فالذين يحقّ لهم الحديثُ عن هذه الكأس، هُمُ الّذين يَحتكرون هذه المنتخبات وينقلون المباريات، ويَكنزون ملايير الدُّولارات على حساب الشّعوب الإفريقية المنكوبة.. تقول لي: هل أنتَ لا تشاهدُ مباريات منتخبِكَ؟ أجيبُكَ: أشاهدها لا حُبّا في الكُرة، ولكن حبّا في الوطن..