محمد فارس
قالت مجموعة [ناس الغيوان] في إحدى أغانيها: [مَاشي بصْياح الغراب كَاتْجِي الشّتا]؛ وعلى هذا المنوال، فنحن نقول للمتشدّقين بالديمقراطية الـمُعاقة: [ليْس بصياح الأحزاب، تأتي الدّيمقراطية].. فالديمقراطية لابدّ لها من رجالها، من مفكّرين، وكتّاب، وسياسيين، وعندما تأتي، لابدّ أن تُصاحبها أدواتُها من مواد، وأكْسيسْوارات، وأجواء لا تكون الديمقراطية بدونها على الإطلاق.. فالّذين يتغنّون بالديمقراطية العرجاء، لا تهمُّهم الديمقراطية سليمةً كانت أو مُعاقة، بل الذي يستهويهم هو ما يصاحب هذه الديمقراطية الـمُصابة من منافع، وريع، وامتيازات إنْ أردتَ أن تَعدَّها لا تُحصيها.. اُدخل إلى قبة البرلمان، ثم وزّع على النواب سؤالاً حول ماهية الديمقراطية، مع حِراسَة مشدّدة، ثم انظُرْ كمْ منهم سينجح في الامتحان؛ قد يَتبسَّم القارئ الكريم من هذا الاقتراح، وأنا أقول له: لماذا يُجبَر المهندس، والطبيب، والأستاذ، على اجتياز امتحان، ويُعْفى منه من يشرِّع، ومن يخطّط لمستقبل أُمّةٍ بأسرها؛ هل هذا معقول؟ لو كان ولوجُ الانتخابات رهينًا باجتياز امتحان في مفاهيم الديمقراطية، والسياسة، والدولة، لما وقَعْنا في هذا المطبّ، ولما أغرى البرلمانُ العوام، ولما ساد الريعُ، وانتشرتِ النّفعية..
[الديمقراطية]؟ أصْل هذا التعبير يوناني، ومعناه سلطة الشعب، أو حُكم الشعب، والغايةُ الديمقراطية تُطابق هذا المعنى كلّ المطابقة، إذ هي ترمي إلى أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وقد كان تحقيقُ هذه الغاية ميسورًا في العصر القديم، حينما كانت حدود الدولة السياسية تقتصر على مدينة واحدة أو رقعة محدودة من الأرض؛ ولكن مثل هذا التطبيق الشعبي المحض للحُكم الديمقراطي يَغْدو مستحيلا في الأمم الكبيرة التي تضمّ الملايين من البشر، ومن ثم فإنّ الدولة الديمقراطية تقوم اليوم فيها على أساس التمثيل النيابي أو الحُكم البرلماني، وأنا أسأل: هل البرلمان في بلادنا يمثّل الشعب؟ هل البرلمان الذي يصوّت على أمور تعتمِد قَهْر الشعب، يَستحق أن يُشهد له بأنّه يمثّل الشعب؟ هل الأُسرة التي تلج القبّة تمثل الشعب؟ هل النائب المتغيّب عن الجلسات أو زميله الذي يغطّ في نوْم ثقيل والجلسةُ تدور، هل هذا يمثّل الشعب؟ هل النائب الذي منذ أن ظفَر، وبوُعودِه كَفَر، هذا يُمثل الشعب؟ فإن شهدتَ له بذلك، كانت شهادتكَ زورًا أيْ والله!
وكما أن الديمقراطية تُطلق على حكم الشعب نفسه لنفسه، فهي تُطلق أيضًا على الجماعة السياسية التي تقوم على أساس الـمُساواة الاجتماعية، وهذه المساواة هي روح الفكرة الديمقراطية؛ وفي الدّولة الديمقراطية يُعْتبر جميع أفراد الشعب متساوين في جميع الحقوق والواجبات، كما أنّهم يُعتبرون من الوجهة النظرية على الأقل، أنهم، هم أصحاب السلطة الحقيقية، يزاولونها على يد نوّابهم وممثليهم؛ وهنا أسأل: هلِ النّواب الغُثائيون في البرلمان عندنا يُعتَبرون ممثلين للشعب؟ اِسْأل أيّ مواطن في الشارع وتَعْرف جوابه بوضوح.. هذا يُذكّرني بما قاله فرنسيٌ منذ ثلاثة أشهر للرئيس [ماكرون] حين وجده يتجوّل في شوارع [باريس] فقال له: [ماذا تفعل يا رئيس والفرنسيون يعانون في صمْت إثْر الحَجْر الصّحي؟ كان عليك أن تكون في مكتبك الآن، وأن تفكّر في الحلول، فأنت مُجرّد موظّف عند الفرنسيين!]، لكن عندنا في [المغرب] الجلسةُ مفتوحة في البرلمان، والنائب يتفقّد فلاحتَه أو أملاكَه أو يتابع الجلسة عبر التلفاز من بيته وهو يحتسي قهوتَه وكأنّ الأمر لا يعنيه؛ يا لها من ديمقراطية!
لقد تقلّبت الديمقراطية منذ العصر القديم في أدوار كثيرة، فتارةً يشتدّ ساعدُها، وتارة تخبو قوّتُها أمام تيار الحُكم المطلق، وأحيانا تنتحل صفاتها لأنواع من الحكم لا تمِت إليها بصلة كما هو الشأنُ عندنا اليوم، حيث تقوم حكومةٌ تنضوي تحت لواء الديمقراطية، وهي في الواقع تخضع لأشدّ ضُروب الطغيان ودليلي على ذلك ما فعله [بنكيران] بصناديق التقاعد، والدّعوى التي رفعها ضدّ الـمُعطّلين للتخلّص من وعْدِه لهم، وإعفاء القاضي الذي حكَم بالحقّ، ودفاعُه ضدّا على القانون، لصالح متّهَم بالقتل من حِزبه؛ وبالجملة كانت ديمقراطية [البيجيدي] [ديموفاشية] مظالمَ وطغيان، وقد خدعوا المغاربة لله، فانْخدَعوا لهم، ولا أظنّ أنّ المغاربة سيُلدَغون من جُحْر (الإخوان) مرّتين باسم ديمقراطية صارت بسَبَبِهم من أشباه الألفاظ، وأشباهُ الألفاظ هي تلك التي ليس لها مقابل في الواقع الملموس.. وحرية الرأي هي أعظم أركان الديمقراطية، وتضطلع الصحافةُ في ظلّ الديمقراطية بأعظم قسْط في الإعراب عن آراء الشعب ورَغباته؛ لكنّ الصحافة التي تَضطلع بهذا الدّور عندنا، ليست صحافة الأحزاب الكذّابة التي تَنفخ في زعمائها الكارتونيين، بل الصّحافة المستقلّة هي التي تضطلع بهذا الدور، وتفضحُ الحكومة، وتنتقد برلمانها، وتنشُر ما أخفتْه تلفزة (الدِّعاية) التي تتحدّث عن مؤتمرات الأحزاب، وعن تفاهات الجلسات، وعن مسرحيات مجالس الحكومة، برئاسة رئيس الحكومة الذي يرفع الأسعار سِرّا حفاظًا على امتيازات ذوي الامتياز، من أحزاب، وبرلمانيين، ومستشارين.. صحافة وتلفزة تغُضّان الطّرفَ عن الفساد، والريع، والنهب، والسّلب، وتتحدّثان عن [الذّلقْراطية] فتصفَانِها بالديمقراطية، وهي ليست كذلك، بدليل الواقع الـمُعاش..