محمد فارس
[القاضي]: الكلمة الآن للدّفاع فليتقدّم مشكورًا.. الدفاع: سيّدي القاضي، لا داعي للرّد على هذه التّرهات والاتّهامات الرّخيصة من طرف الادّعاء؛ فأيّ حكومة تصل إلى السّلطة إلاّ وتكون هدفًا لنِبال النّقد مهما عمِلتْ؛ وهؤلاء يهاجمون الحكومةَ لأنّها حكومة أثرياء وأغنياء، والأثرياء هم كذلك مواطنون، وصلوا إلى السّلطة بواسطة الانتخابات، ولهم مشاريع تنموية، واتّخذوا قراراتٍ إيجابية من بيْنها فرض الجُرعَة الثالثة ضدّ وباء (كوڤيد ــ 19)، واتخاذ إجراءات أخرى لا داعيَ لذِكْرها، فالادّعاءُ لا يرى إلاّ ما لا يُفْعَل، ويذْكُر السّلبيات ويتغاضى عن الإيجابيات، وهذا حالهُم مع الحكومة..
[القاضي]: الكلمة الآن للادّعاء، فليتفضّل.. الادّعاء: سيّدي القاضي: هذه ليست تُرّهات كما يدّعي دفاعُ التّضليل، فهذه الحكومة، حكومةُ الثّراء، والاغتناء على حساب الشعب المقهور قد اتّخذت قرارات جائرة، فحتى جرعة (كوڤيد ــ 19) حوّلتْها إلى أداة قمعية وهدّدت العمّال والموظّفين بالاقتطاع من الأجور أو الطّرد من العمل، وعرقلتْ مصالح المواطنين بفرض جواز التّلقيح بسبب ضُعْفِها في الإقناع وعدم ثقة الشّعب بها.. لقد قالوا إنهم سيربُّوننا وقد فَعلوا، ثمّ وصفونا بأنّنا كلاب وهذا وصفٌ وشتيمةٌ لم يتجرّأْ حتى الاستعمار البغيض على وصفِنا به؛ أما قَوله إنّ حكومة الأغنياء، هي كذلك حكومة مواطنين، وصلوا عن طريق الدّيمقراطية، فهذا كلامٌ مردود، لأنّ الأثرياء لا علاقةَ لهم بالسّياسة، ولا بالدّيمقراطية، وقد حذّر منهم أنبياء، وصُلحاء، وفلاسفة، ومؤرّخون، ولدينا شهودٌ حضروا للإدلاء بشهادتهم، نرجوكم السّماح لهم بالدّخول والاستماع لشهاداتهم..
[القاضي]: نادِ على الشاهد الأول! القاضي: الاسم والنسب، والجنسية، والصّفة؟
[فريدرتْش نيتْشَه] الموْلد: 1844؛ الوفاة: 1900؛ ألماني وفيلسوف مثالي.. القاضي: ما هو موقفكَ من حكومة الأغنياء؟ [نيتشه]: أرى أنه من علامات انحطاط أُمة، هو عندما تصبح ثَمرة ناضجة للوقوع في يد ديمقراطية التّجار والأثرياء؛ فهم أعداءُ الفكر، والعلم، والفلسفة، ويعتَبرون التّفكير لعنةً، والسياسة الحكيمة هي التي تعملُ على إبعاد رجال الأعمال عن الحُكم، لأنّهم فقراء ولو كثُر مالُهم، ورجال الدّولة يجب أن يكونوا ساسةً وفلاسفةً لا تجارًا وأثرياء، هذا هو رأيي.. يتدخّل الدفاعُ دون إذن القاضي ويقول: سيّدي القاضي، هذا رجلٌ لا تجوز شهادتُه! فيسأل القاضي: ولماذا؟ الدّفاع: لأنّه أُصيب بخلل في عقله، وعلى إثره مات.. يتدخّل الادّعاء: سيّدي القاضي، لقد قال هذا الكلام عندما كان في قواه العقلية، ولـمّا أصابه المرض، امتنع عن الكتابة حتى مات.. ينظُر [نيتشه] نظرةً شزراء للدّفاع ثم ينصرف دون أن يقولَ كلمةً واحدة.. [ويل ديورانت]، المولد: 1885؛ الوفاة: 1981؛ فيلسوف أمريكي.. القاضي: ما هي شهادتُكَ؟ شهادتي هو أنّه عندما يتولّى الأثرياءُ تدبير شؤون الأمة، تكون الدولةُ تدار بأحطِّ رجالها، فالأغنياءُ يشترون الأحزاب، ويترشّحون باسمها فيشوِّهون الدّيمقراطية، وتخضع صناديقُ الاقتراع لعدد الدّولارات بدل عدد المصوّتين، فيصل إلى السلطة من كان جزّارًا، أو نجّارًا، صار ثريًا وميسورَ الحال فيزيغون بالدّيمقراطية عن مسارها، وتدار الدّولةُ بأسوإ الرّجال؛ وهذا خطر..
[الدفاع]: نحن كذلك لدينا شاهد، وهو فيلسوف كبير، استَدعُوا [ڤولتير] من فضلكم!
[ڤولتير]: فيلسوف فرنسي؛ المولد: 1694؛ الوفاة: 1778: أرى أن الأغنياءَ هم أحقُّ بتدبير شؤون الدولة، ولثرائهم وبُعْدِهم عن الفقر، لن يَطمعوا في سرقة أو اختلاس أموال الأمّة عكْسَ حكومة الفقراء الذين يبحثون دوما عن فرص الإثراء، هذا هو رأيي سيّدي القاضي..
الادعاء: السّيد (ڤولتير)، هل شاهدتَ في عصرك حكومةَ أغنياء لتأكيد صحّة نظريتك؟ (ڤولتير): لا، لم يحدُثْ! الادّعاء: وماذا كان سيكُون رأيُكَ لو عِشت في زماننا، ورأيت حكومات الأثرياء تتخوّضُ في ثروات الأمّة بغير حقّ، ماذا كان سيكون موقفُكَ منها؟ (ڤولتير): لو حدث هذا، لما وافقتُ عليه، ولناديتُ بإسقاط هذه الحكومة تمشيًا مع مبادئ العقل! الادّعاء: لقد حدثَ هذا يا سيّد (ڤولتير) للأسف الشّديد، وكانت حكومة الأغنياء أسوأ الحكومات على الإطلاق..
[القاضي]: لا داعي يا سيّدي (عمَر بن عبد العزيز) للتعّريف بنفسكَ، فنحن نعرف حسبكَ ونسبَكَ!
[عمر بن عبد العزيز]: كنتُ أقول للوزراء: لا تتّجروا وأنتم وُلاة، فالوزيرُ إذا اشتغل بالتّجارة استَأثَر، وأصاب ظُلمًا، وإنْ حرص ألاّ يفعل؛ وكنتُ أستبعد من المسؤولية كلّ تاجر وفلاح، وكان شعاري هو الله بعثَ (محمّدًا) هاديًا، لا جابيًا، فالأغنياء ليس مجالهم تدبيرَ شؤون الأُمم..
[ابن خلدون]: كنتُ أقول إنّ الظّلم منذرٌ بخراب العُمران، وفي هذه المحكمة سأكرّر مقولةً عُرِفتُ بها تاريخيًا وهي أنّه كلّما كثُرت الجباية، سارتِ الدّولةُ نحو النّهاية، هذه شهادتي ولن أزيدَ عليها..
القاضي: تُرفع الجلسةُ للمداولة.. وبعد حين تعود هيئة المحكمة، ويقرأُ القاضي نصَّ الحكْم الذي أقرّتهُ المحكمة: حكمَت المحكمةُ بعدم الاختصاص، والحُكْمُ متروكٌ للشّعب، رفعتِ الجلسة! فما هو حكمُ الشّعب يا تُرى؟ حكْمُه هو [اِرْحَل!].. فلو كان لِلشّعب قيمةٌ وكلمةٌ وحكمٌ نافذٌ، لاستقالتِ الحكومةُ استجابةً لحُكْم الشّعب؛ ولكِنْ..