في مشهد يختزل تحولات عميقة في موازين القوة الطاقية الإقليمية، انطلقت يوم 28 أبريل 2025، من قرية “فرديوة” الصغيرة التابعة لجماعة القصر الصغير بضواحي طنجة، شحنة ضخمة من الكهرباء المغربية قدرت بـ900 ميغاواط، نحو شبه الجزيرة الإيبيرية، لمساعدة إسبانيا على تجاوز أكبر أزمة انقطاع كهربائي في تاريخها.
لم يكن هذا الحدث مجرد عمل تقني عابر، بل محطة رمزية تكشف عن تصاعد “دبلوماسية الكهرباء” التي بات المغرب ينهجها، ليس فقط في محيطه الإفريقي التقليدي، بل أيضا عبر ضفة المتوسط، حيث صارت الرباط شريكاً لا غنى عنه في تأمين أمن الطاقة لدى جيرانها الأوروبيين.
من النيجر إلى مدريد.. خريطة مغربية للطاقة العابرة للحدود
قبل أيام فقط من التدخل المغربي لإنقاذ إسبانيا من العتمة، كان وزير خارجية النيجر بكاري ياوو سانغاري، يوشّح السفير المغربي المنتهية ولايته وسفير الرباط في نيامي، علال العشاب، بوسام الاستحقاق الوطني من درجة قائد، وهو تكريم لم يأتِ من فراغ، بل تقديرًا لدور المغرب في مساعدة النيجر على تجاوز أزمة كهرباء خانقة بعد توقف الإمدادات من نيجيريا عام 2023.
الهبة المغربية التي أمر بها الملك محمد السادس، تمثلت في محطة كاملة لإنتاج الكهرباء تضم تسعة مولدات بسعة إجمالية بلغت 22.5 ميغاواط، جرى تثبيتها في محطة “نيجليك نيامي 2″، إلى جانب دعم تقني وتكويني لأطر النيجر في تشغيل وصيانة المنظومة. مبادرة اتخذت طابعًا إنسانيًا في لحظة عزلة دولية عانت منها البلاد، لكنها حملت كذلك رسائل جيوسياسية غير قابلة للتجاهل.
موريتانيا.. الربط الاستراتيجي نحو المستقبل
وبينما تتبلور الخطوط العريضة لمشروع “الأنبوب الإفريقي الأطلسي” لنقل الغاز من نيجيريا إلى أوروبا عبر الأراضي المغربية، تعمل الرباط على ترسيخ الربط الكهربائي مع موريتانيا أيضًا، في سياق التعاون جنوب-جنوب، وتعزيز السيادة الطاقية في الساحل الإفريقي.
في يناير وفبراير 2025، وقّعت الرباط ونواكشوط اتفاقيتين مهمتين لتبادل الكهرباء وتعزيز الطاقات المتجددة، الأولى على المستوى الوزاري، والثانية بين المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب المغربي ونظيره الموريتاني. وهو مشروع يدخل ضمن “المبادرة الملكية الأطلسية”، الرامية إلى تحقيق تكامل طاقي إقليمي وتنمية مستدامة قائمة على استغلال الموارد المتجددة في كلا البلدين.
إنقاذ إسبانيا.. حين جاء الضوء من الجنوب
لكن أبرز لحظات هذا التحول الطاقي المغربي برزت يوم 28 أبريل 2025، عندما فقدت إسبانيا 60 في المائة من قدرتها الإنتاجية للكهرباء في ظرف خمس ثوانٍ فقط، في واحدة من أعنف الأزمات الطاقية التي عرفتها. وبينما عمّت العتمة معظم التراب الإسباني، جاء الحل من الجنوب: المغرب ضخّ بشكل فوري 900 ميغاواط عبر خطوط الربط الكهربائي البحرية في مضيق جبل طارق، ما مكّن إسبانيا من استعادة التوازن في شبكتها.
رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز لم يتردد في الإقرار بالدعم، موجّهًا شكره للمغرب وفرنسا، بينما أظهرت تقارير إعلامية إسبانية أن الرباط سخّرت أكثر من 38 في المائة من قدرتها الإنتاجية لتلبية الطلب الطارئ، في مؤشر لافت على جاهزية بنياتها التحتية ومكانتها كفاعل طاقي صاعد في غرب المتوسط.
تحول استراتيجي في الجغرافيا الطاقية
هذه الوقائع المتتالية تكرّس واقعًا جديدًا: المغرب لم يعد فقط بلد عبور للطاقة، بل بلد إنتاج وإمداد وتحكّم في تدفقات استراتيجية، من قلب إفريقيا إلى أوروبا. فبنيته التحتية التي تشمل ثلاثة كابلات بحرية بطول 29 كيلومترًا عبر مضيق جبل طارق، وسعتها التشغيلية التي تبلغ 1400 ميغاواط، تجعل منه فاعلًا نوعيًا في معادلة الأمن الطاقي الأوروبي.
في الوقت نفسه، يواصل المغرب تعزيز حضوره في إفريقيا جنوب الصحراء، من خلال اتفاقيات شراكة وتكوين ودعم تقني في مجالات الكهرباء والطاقات المتجددة، بما يجعل من “دبلوماسية الكهرباء” أداة نفوذ ناعم جديدة، توازي ما كانت تفعله بعض القوى الكبرى تقليديًا بالغاز أو بالنفط.