في عالم تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية وتتعاظم التهديدات الأمنية العابرة للحدود، تبرز العلاقات المغربية–الأمريكية كنموذج لشراكة استراتيجية فريدة في مجال الأمن والاستخبارات. هذه العلاقة، التي تمتد لعقود طويلة، لم تتوقف عند مستوى التعاون السياسي والاقتصادي، بل تعمقت لتشمل جوانب بالغة الحساسية تتعلق بمكافحة الإرهاب، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز قدرات الردع الإقليمي.
و يعود تاريخ التعاون بين الرباط وواشنطن إلى عقود مضت، وتحديداً منذ الاعتراف الأمريكي المبكر باستقلال المغرب سنة 1777، وهو أقدم اعتراف بدولة أمريكية من قبل دولة أجنبية. هذا التاريخ الطويل من الثقة المتبادلة أسّس لتعاون أمني واستخباراتي تطور بشكل لافت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حين أضحى التنسيق في مجال مكافحة الإرهاب أولوية ملحة للولايات المتحدة، التي وجدت في المغرب شريكاً موثوقاً وفاعلاً.
و يُعد المغرب أحد أبرز الحلفاء في شمال إفريقيا في مجال محاربة الجماعات الإرهابية، لا سيما “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، و”داعش”، والجماعات المتطرفة في منطقة الساحل والصحراء. وقد أثبتت المملكة كفاءتها في تفكيك العديد من الخلايا الإرهابية قبل تنفيذها لهجمات، وهو ما نال إشادة أمريكية ودولية متكررة.
وتعتمد الولايات المتحدة على المغرب كمركز استخباراتي إقليمي، لما يتمتع به من أجهزة أمنية عالية الاحترافية، خاصة المكتب المركزي للأبحاث القضائية (BCIJ)، الذي يُوصف بـ”FBI المغرب”. وقد تم تعزيز هذا التعاون بتبادل المعلومات حول تحركات الإرهابيين العابرين للحدود، وتتبع مصادر التمويل، ومراقبة الفضاء الرقمي، بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي التي تستغلها الجماعات المتطرفة.
وعززت واشنطن دعمها الأمني للرباط عبر برامج تدريب وتطوير القدرات، شملت أفراد الشرطة، والدرك، والمخابرات، إلى جانب تزويد المغرب بتكنولوجيا متقدمة في مجالات التنصت الإلكتروني، وطائرات الدرون، وبرمجيات تحليل البيانات الضخمة. كما يشارك المغرب بانتظام في المناورات العسكرية الأمريكية مثل “الأسد الإفريقي”، والتي تتضمن تمارين على عمليات مكافحة الإرهاب والإنزال الجوي والتنسيق بين القوات الخاصة.
و يمثل المغرب نقطة ارتكاز استخباراتية في منطقة شمال إفريقيا والساحل، ما يجعله شريكا محوريا في جهود واشنطن لاحتواء التهديدات المتصاعدة في مالي، والنيجر، وليبيا. ويأتي هذا في ظل الفراغ الأمني المتزايد في بعض دول الجوار، ما دفع الولايات المتحدة إلى تعزيز علاقاتها مع شركاء مستقرين وذوي قدرة على تنفيذ المهام الأمنية النوعية.
وقد عملت الرباط وواشنطن على دعم قدرات بعض الدول الإفريقية في مواجهة التهديدات الإرهابية، عبر مبادرات إقليمية ودورات تكوين مشتركة، ما يُعزز من دور المغرب كـ”قوة ناعمة” أمنية في القارة.
و في العصر الرقمي، لم تعد التهديدات الأمنية محصورة في الميدان التقليدي، بل أصبحت الفضاءات السيبرانية ساحة حرب خفية. وهنا برز التعاون المغربي-الأمريكي في مواجهة الهجمات السيبرانية، والتجسس الرقمي، وحماية البنية التحتية الحيوية. وقد أبرم الطرفان اتفاقيات تتعلق بتطوير أمن الشبكات المعلوماتية الحساسة، ومكافحة الجريمة السيبرانية.
و رغم هذا التعاون المثمر، تظل العلاقة الأمنية المغربية-الأمريكية تواجه تحديات عدة، منها التوازن بين المصالح الإقليمية للولايات المتحدة، وتغير أولويات واشنطن نحو مناطق أخرى مثل آسيا، بالإضافة إلى ضرورة تعميق التعاون في مجالات جديدة كأمن الطاقة، والهجرة غير الشرعية، ومكافحة الجريمة المنظمة.
لكن في المقابل، تفتح هذه الشراكة آفاقاً استراتيجية لتعزيز الاستقرار في شمال إفريقيا والبحر المتوسط، خاصة في ظل التحولات التي تعرفها الجزائر ومنطقة الساحل، إلى جانب الأدوار التي يمكن أن يلعبها المغرب كوسيط إقليمي في ملفات أمنية حساسة.
و العلاقات الأمنية والاستخباراتية بين المغرب والولايات المتحدة ليست وليدة اللحظة، بل هي ثمرة رؤية استراتيجية عميقة تنبني على المصالح المشتركة والثقة المتبادلة. وفي ظل عالم مضطرب، يظل المغرب شريكاً لا غنى عنه لواشنطن في منطقة تزداد فيها التهديدات الأمنية تعقيداً. وبينما تتغير التحالفات، تواصل الرباط وواشنطن رسم مسار تعاونهما على ضوء ما يفرضه الواقع من أولويات واستحقاقات أمنية.