محمد فارس
يقولُ الفيلسوف العربي الكبير، وعضو مجمع اللغة العربية [جميل صليبا] بالحرف: [من الأصلح لنا في اللغة العربية أن نَحذف كلمة [سياسي] من اسم هذا العلم، وأن نسمّيه بعلم الاقتصاد، أو العِلم الاقتصادي، وليس هذا العلمُ في نظرنا سوى قِسم من علم أعمّ منه، وهو علمُ الاجتماع].. هكذا.. لكن ما هو الاقتصاد؟ الاقتصادُ مأخوذ من القصْد، والقصدُ استقامةُ الطريق، والاقتصادُ فيما له طرفان، إفْراط وتفريط، محمود على الإطلاق، وقد يكنى به عمّا تردَّد بين المحمود والمذموم كالواقِع بين الجَور والعدل.. ومبدأ الاقتصاد، هو القول: إنّ الطبيعة لا تسْلك لبلوغ غاياتها أعْوص الطريق، بل تسلُك أبسطها، والمقصود بأبسط الطّرق تلك التي تستلزم الأقلّ من القوة، والمادة، والجهد، والاختراع، والمبادرة؛ والاقتصاد في التفكير، مبدأ عام في التفكير العلمي، يَرمي إلى الإيجاز والتّعويل على أقلّ ما يُمكن من الفروض لتفسير الظّواهر المختلفة، ومنه قولُ [ماخْ]: العلم، اقتصادٌ في التفكير، والاقتصادي في الاعتقاد، عنوان كتاب لـ[الغزالي]..
وطريقة الاقتصاد في الاستظار، في الطريقة التي ابتكرها [أبنغوس] لحساب مدّة بقاء الأثر في النفس بعد التعلم.. وعلمُ الاقتصاد السّياسي، علم يبحث في ظواهر توزيع الثروة، وإنتاجِها واستهلاكها، ويحاول الكشف عن قوانين هذه الظواهر.. والثروة في الاصطلاح تُطلق على كل ما يُنْتفع به، أو تُطلق على كلّ ما له قيمة في التبادل.. فالعمل، بهذا المعنى، ثروة، لذلك صحّحَ بعضُهم تعريف هذا العلم بقوله: إنّه النظر في قوانين التبادل.. قال [ج ــ ب ــ ساي]: إنّ علم الاقتصاد السياسي، هو العلمُ الذي يبحث في قوانين إنتاج الثروة، وتوزيعِها، واستهلاكها؛ وتصحّح كتبُ علم الاقتصاد هذا التعريف بإضافة بحث رابع إلى موضوع هذا العلم، وهو تداوُل الثروة، ولكنّ بعض العلماء يَعتقد أن هذه الإضافة غير ضرورية، لأنّ التداوُل حالة من حالات التوزيع؛ نعم، إن فكرة التبادل لعبتْ دورًا هامًا في تطوّر هذا العلم، ولكنّ قيمتَها عند المعاصرين أقلّ مما هي عليه عند المتقدّمين، ثم إن مفهومَيِ الإنتاج والاستهلاك، يتضمنان معانيَ كثيرة لا علاقة لها بالاقتصاد، كبعض المعاني الصناعية الداخلة في مفهوم الإنتاج، أو بعض المعاني الفيزيولوجية أو الإتْنُوغرافية، أو الأخلاقية الداخلة في مفهوم الاستهلاك.. فالإنتاج والاستهلاك متّصلان بمفهوم التوزيع، وعلاقتهما به كعلاقة المعْلول بالعلّة..
ومهما يكُن من أمر، فإن لعِلم الاقتصاد السياسي تَعْريفات كثيرة تَختلف باختلاف المذاهب الاقتصادية؛ فهناك مدرسة تعتقد أنّ هذا العِلم استنتاجي، لأنّه يمكن تأليفُ الظواهر الاقتصادية من عددٍ محدود من المعاني البسيطة، ومن هذه المدرسة الاستنتاجية: الفيزْيوقراطيون الفرنسيون في القرن الثامن عشر، ومن أعضائها نجدُ مثلا [وريكاردُو]، ومن المدرسة النّمساوية [منْجر]، و[بوهم باويرك]؛ ومن هذه المدرسة أيضًا العلماء الذين أخذوا بالطّريقة الرياضية في دراسة الظّواهر الاقتصادية من أمثال: [كورْنُو، وستَانلي جيفونس، وباريتو، وبانتاليوني].. وهناك مدرسة تاريخية تعتقد أن هذا العلم، لا يوصَلُ فيه إلى علاقات ضرورية كلية، وأنّه من الخير له أن يكتفي بوصف العلاقات الاقتصادية، وبيان اختلافها باختلاف الزمان والمكان كما يقول كلٌّ من [روشِر، وشموللرْ]..
وأخيرًا، فإن اصطلاح [علم الاقتصاد السياسي] اصطلاحٌ غامِض، وقد استعمله [أنْطوان دُومونْكرِتْيان] لأول مرّة في كتابه: [Traité de l’Economie Politique]، سنة (1615) للدّلالة على فنّ إدارة أموال الدولة، واستعمله كذلك [آدام سميت] بمعنًى قريب من هذا في كتابه: [Richesse des Nations]، وهو من حيث الاشتقاق، يدلّ على فنّ تدبير الدولة، لأنّ معنى السّياسي: الإداري؛ ومعنى الاقتصاد: تدبيرُ المنزل أو ترتيب أجزاء الكلّ ترتيبًا يحقِّق غايةً مقصودةً.. ولا يكفي لتصحيح هذا الاصطلاح، أن نستبدلَ به اصطلاحًا آخر كعِلم الاقتصاد الاجتماعي، لأنّ هذا الاصطلاح يُطلقُ عند بعض الكتّاب الفرنسيين على البحث في حياة العُمّال المادية والخُلقية، وعلى الوسائل اللاّزمة لتحسين شُروط حياتهم، وهذا الموضوع مختلفٌ تمامًا عن موضوع [عِلم الاقتصاد السّياسي]؛ وقد فرّقَ [فالْراس] بيْن موضوع (الاقتصاد السياسي)، وموضوع (الاقتصاد الاجتماعي)، فقال: إن علمَ الاقتصاد السياسي يَبحث في قوانين الحياة الاقتصادية كما هي، وأما علمُ الاقتصاد الاجتماعي فيعيِّن للنّظام الاقتصادي صورةً غائبة، ويبيّن ما هي الوسائلُ المؤدِّية إلى تحقيقها.. وهناك عِلمُ اقتصادٍ جديد يَنْمو في بلادنا [المغرب]، ويسمّى [علم الاقتصاد الحِزبي]، حيث أطبقتْ كمّاشةُ التّجار، ورجال المال والأعمال على الأحزاب، وصيّرتْها غُرفًا تجارية ومجمّعات اقتصادية لا سياسية، فأمستِ الديمقراطية مهدَّدة، ومن الممكن أن تَنشأ حكومة التّجار في البلاد، فما علينا إلاّ أن نصلّيَ صلاةَ الجنازة على الدّيمقراطية التي سُحِقَت تحت وطأة المتعطّشين للمال والمناصب..