بوجبير فؤاد، خبير في علوم الإدارة و التدبير العمومي
تُعدّ النفقات العمومية، بما في ذلك الاستثمارات، من أبرز محركات النمو الاقتصادي، غير أن فعاليتها تظل رهينة بمدى صرامة الإدارة السياسية ونجاعة أداء الإداريين العموميين. وفي صميم هذه المعادلة، تتبوأ العلاقة بين السياسيين والمديرين العموميين مكانة محورية.
في المغرب، عدة عوامل تحدد طبيعة هذه العلاقة ، من أبرزها دستور 2011 والقانون التنظيمي الجديد لقوانين المالية، المعروف اختصاراً بـ”القانون التنظيمي الجديد للمالية”. حيث تؤثر هذه العوامل في توزيع السلط، وتحديد الأدوار والمسؤوليات، وآليات المراقبة.
وفي هذا السياق، تهدف الإصلاحات الميزانياتية والمحاسباتية إلى تعزيز الشفافية، وتحسين تدبير الموارد، وضمان نجاعة الإنفاق العمومي بما يحقق الاستجابة المثلى لحاجيات المواطنين ودعم النمو الاقتصادي. إلا أن هذه الإصلاحات قد تواجه صعوبات في التنفيذ، بفعل مقاومة المصالح القائمة والحاجة إلى تدبير التوترات والصراعات التي قد تبرز خلال مراحلها.
في المغرب، تتطور العلاقة بين السياسيين والإداريين العموميين بشكل دائم، متأثرة بالسياقات الثقافية والمؤسساتية. وتتميز هذه العلاقة بتعقيداتها، إذ تعرف أحياناً توتراً وصراعات، وأحياناً أخرى تعاوناً وتبادلاً للخبرات، كما تتسم في بعض جوانبها بالتكامل. ومن ثم، لا يمكن إنكار الأهمية الحيوية لهذه العلاقة في ضمان نجاعة تنفيذ السياسات العمومية.
كما أن بعض المبادرات، مثل الجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري، تسعى إلى تحسين فعالية الإدارة وتعزيز القرب من المواطن، وهو ما قد ينعكس بدوره على العلاقة بين السياسيين و الإداريين العموميين على الصعيدين الجهوي و المحلي، خاصة من حيث تحمل المسؤولية وتفويض السلط.
*الثقة والتعاون : عناصر جوهرية لعلاقة أساسية*
تقوم العلاقة بين السياسيين و الإداريين في القطاع العمومي على الثقة المتبادلة، وفهم واضح للأدوار، وتعاون فعّال لتنزيل السياسات العمومية. وتُعدّ الثقة أساسية، حيث يتوجب على المنتخبين الاعتراف بخبرة الأطر الإدارية، وعلى هؤلاء احترام الشرعية السياسية للمنتخبين. وتتأسس هذه الثقة على احترام متبادل للأدوار والاختصاصات والوظيفة العمومية، مع الحرص على الشفافية والتواصل المستمر للحفاظ عليها.
هذا التعاون ضروري لضمان نجاعة العمل العمومي وتلبية تطلعات المواطنين. ويتطلب ذلك تواصلاً مستمراً وتبادل وجهات النظر لخلق بيئة عمل إيجابية تُسهم في تحقيق الأهداف المشتركة.
*سلطة الإداريين وتطور موازين القوى*
أدى إدماج أساليب التدبير الخاص في القطاع العمومي إلى تغيّر موازين القوى بين السياسيين والإداريين. فمثلاً، يجد الوزراء أنفسهم أحياناً في مواجهة منافسة من طرف الإداريين و المكلفين بتنفيذ السياسات العمومية و البرامج القطاعية، بحيث اكتسبوا شرعية مع مرور الوقت، بفعل خبرتهم التقنية. فالسياسيون، المنتخبون من طرف الشعب، مسؤولون أمام البرلمان والرأي العام عن السياسات العمومية، بينما يكتسب الإداريون العموميون نفوذاً أكبر بفعل تخصصهم، وهو ما أدى و يؤدي إلى بروز توترات، ولكن أيضاً إلى فرص للتعاون وتبادل الكفاءات لتحسين العمل العمومي.
ومع مرور الوقت، ومع تطبيق مقاربة جديدة للتدبير الميزانياتي ترتكز على النتائج والأداء والمساءلة، بدأ السياسيون في الأخذ بمشورة المسؤولين بالإدارات العمومية بعين الاعتبار، فيما أدرك هؤلاء الإداريين و المسيرين للبرامج و المكلفين بالتنفيذ البعد السياسي لمهامهم.
ورغم توسيع صلاحيات الإداريين واستقلاليتهم بفعل إدخال تقنيات التدبير الحديثة، تظل مسألة الشرعية السياسية في المغرب مطروحة بقوة. وقد حدد عدد من الباحثين والخبراء ثلاثة أنواع من الصراعات :
صراعات الشرعية، وصراعات الاختصاص، وصراعات إيديولوجية. بحيث تتعلق صراعات الشرعية بالحق في تولي دور أو وظيفة معينة، وقد تنجم عن اختلاف في القيم أو القواعد أو الأعراف. أما صراعات الاختصاص فغالباً ما تنبع من تباين في تشخيص الإشكالات وتصور الحلول. بينما ترتبط الصراعات الإيديولوجية باختلاف الرؤى حول السياسات العمومية، إذ قد يركز السياسيون على القيم الوطنية والمصلحة العامة أو الأهداف الحزبية في بعض الأحيان، بينما ينزع الإداريون المكلفون بالتنفيذ إلى التركيز على الأداء و القوانين والتنظيمات.
من جهة أخرى، أسهمت النزعة التدبيرية (managérialisme) في تطوير كفاءات في مجال التدبير العمومي، حيث بات الإداريون (الآمرون بالصرف بالنيابة أو المساعدون داخل القطاع العمومي على سبيل المثال) يتقنون آليات التنفيذ والابتكار في المشاريع، ما عزز التعاون مع السياسيين في العديد من الحالات. فقد استفاد بعض السياسيين من خبراتهم لفهم الإشكالات التقنية، وتنزيل السياسات العمومية بشكل أكثر فعالية، مما أسهم في خلق جسور بين عالم السياسة والإدارة، مع مراعاة الضغوط السياسية، ومطالب الرأي العام، والنصوص التنظيمية الجاري بها العمل.
*تحولات السياقات الثقافية والمؤسساتية**
شهد المغرب عبر الزمن عدة تحولات أثرت على الحياة اليومية، بفعل تراكمات ثقافية واقتصادية وسياسية. ويتميز بتنوع تقاليده الثقافية وموقعه الاقتصادي و الجغرافي، ما ينعكس على عادات المواطنين وتطلعاتهم. وتؤثر هذه التحولات على كيفية صياغة السياسات العمومية وتنفيذها وتلقيها من طرف المجتمع.
كما يجمع المغرب بين التقليد والحداثة، ما ينعكس على أساليب القيادة والتواصل وتوقعات مختلف الفاعلين. وتلعب بعض القيم مثل السلطة والتراتبية والاحترام دوراً بارزاً في تفاعل السياسيين والإداريين.
أما على المستوى المؤسساتي، فقد شهد المغرب مسار تحديث متدرج، من خلال إصلاحات دستورية تعزز استقلال القضاء، وتقوي صلاحيات البرلمان، وتكرس الحريات والحقوق الأساسية. كما انفتح اقتصادياً عبر تحرير السوق وجلب الاستثمارات، مع اعتماد خيار اللامركزية الذي مكن الجهات و الجماعات الترابية من دور أكبر في تدبير الشأن المحلي.
وقد أثرت هذه التحولات على العلاقة بين السياسيين والإداريين المسؤولين على تنفيذ السياسات العمومية و خاصة على المستوى الميزانياتي ، إذ زادت من تعقيد أدوارهم، وخلقت فرصاً وتحديات لتعاون أكثر فعالية. فمن جهة، جعل تدبير الأداء وتصاعد دور المجتمع المدني السياسيين أكثر إنصاتاً للمواطنين وأكثر تفويضاً للمسؤوليات. ومن جهة أخرى، فإن هذه الدينامية قد تولد توترات، حيث قد يُنظر إلى استقلالية الإداريين على أنها تقويض لدور السياسيين، خصوصاً مع تغيّر البنيات التنظيمية.
*دور المستشارين الوزاريين والتسييس*
في المغرب، يشكل المستشارون الوزاريون حلقة وصل أساسية بين الوزير والإدارة، لكنهم قد يكونون أيضاً مصدر تسييس مفرط. فهم يشاركون في صياغة السياسات وتقديم التوصيات، ويُعتبرون في كثير من الأحيان الواجهة الأولى للإدارة. ويُنظر إليهم أحياناً كـ”حراس” للأهداف السياسية للوزير، يحرصون على انسجام قرارات الإدارة مع توجهاته السياسية، و خاصة توجهات الحزب من الناحية الاستراتيجية في تدبير الشأن العام .
غير أن تدخلهم قد يؤدي إلى تحييد الكفاءة التقنية الموضوعية، ويفتح الباب أمام توترات مع الأطر الإدارية و حتى مع البرلمانيين أحيانا، مما يعقد تنفيذ السياسات. فالتسييس المفرط قد يُضعف أداء الإدارة، ويقلل من حيادها وفعاليتها.
لذا، من الضروري احترام حدود الأدوار والمسؤوليات، لضمان نجاعة تنفيذ السياسات العمومية، وحماية حياد الوظيفة العمومية، وخلق شروط مساءلة عادلة وفعالة.
*خاتمة*
تتطلب إدارة الشأن العام، إلى جانب احترام القوانين، التزاماً أخلاقياً يضع المصلحة العامة فوق أي اعتبار. وهذا يعني اتخاذ قرارات تخدم الشعب أولاً، بعيداً عن الحسابات الفئوية أو الشخصية، وبروح من النزاهة تعزز شرعية العمل العمومي وشفافيته.
ويُفترض في السياسيين والإداريين العموميين القدرة على اتخاذ قرارات صعبة عندما تقتضي المصلحة العامة ذلك. وتظل العلاقة بين الطرفين ركيزة أساسية في بناء حكامة ناجعة، قائمة على الثقة، والاحترام المتبادل، وتكامل الأدوار، لكنها تتعرض دوماً لاختبارات بفعل ديناميات السياسة والإدارة.
ولكي تظل هذه العلاقة مثمرة، ينبغي الحفاظ على توازن دقيق : ضمان حياد الإدارة، وتمكين السياسيين من الوفاء بوعودهم الديمقراطية. فالهدف ليس القضاء على التوترات، بل تدبيرها بشكل بنّاء، من خلال وضوح التوقعات، وتفاهم متبادل، وضمانات مؤسساتية تصون المسؤولية الديمقراطية وتحصّن الوظيفة الإدارية من التسييس.