محمد فارس
عندما تكتُب في هؤلاء الرِّجال الأفذاذ، تشعُر بالفخر والاعتزاز وأنتَ تعيشُ معهم عبر تاريخهمُ المجيد، ونفسيتُكَ تتغيّر عكْس ما تكونُه وأنتَ تكتب حوْل التّافهين، والفاسدين، والـمُنافقين؛ واليوم سنخوضُ في تاريخ محاربٍ أسطوري، ووطني صادق، وحبّذا لو كان لنا مثْلُه في زمن الرّداءة، فمَن هو هذا البطلُ التّاريخي؟ إنّه [فونْجوين جياب]، ومَن هو! قهَر الفرنسيين الغُزاة، وطردَ الأمريكيين البُغاة، وتركَ الوطنَ محرّرًا من دنسِ المستعمرين، ولـمّا تحرّر الوطنُ، ذهب إلى بيته، لأنّ تدبيرَ شؤُون البلاد تنمويًا واجتماعيًا ليس من اختصاصِه، لأنّه رَجُل ميدان، ومُقاتل كرٍّ وفرّ، ومُبدع أساليب قتالية أذهلَت خصومَه وصار مدرسةً تُحتذى في حروب التّحرير والانعتاق؛ إنه [جياب] القائدُ الڤيتنامي المعروف، ابنُ البلد الذي حاربَ تِباعًا الصّينيين، واليابانيين، والفرنسيين، والأمريكان، فطرِدُوا جميعهُم من [ڤيتنام]، أو كما تُلقّبُ تاريخيًا بِـ: [La Perle de l’Asie].. كان [جياب] عسكريًا، وسياسيًا، وصُحفيًا، وكاتبًا، وقد لقّبَ بِـ[نابليون] ڤيتنام، وأنا لا أتّفق مع هذا اللقب، لأنّ [نابليون] كان استعماريًا، فيما [جياب] كان تحرُّريًا، ووطنيًا صادقًا..
عمِل [جياب] مدَرسًا، واطّلع على علوم الحرب، فكان هو ذاتُه أكاديميةً في هذا المجال؛ ومن أروع مفاخره التاريخية، هو انتصارُه الباهر على الفرنسيين سنة (1954) في معركة [ديان بيان فُو] التي تواصلتْ معاركُها لمدّة تَزيد عن (56) يومًا دون انقطاع، وكان الفرنسيون يعتقدون أنّ الڤيتناميين سوف يتعذّر عليهم إيصالُ مدافعهم إلى مشارف ساحة المعركة نظرًا إلى صعوبة الجبال، وكثافة الغابات، وانعدام المسالك، ولكن الڤيتناميين الشّجعان نقلوا أسلحتَهم الثّقيلة مُفكَّكةً، وكانت تلكُم من عبقرية [جياب] القتالية، وانهزَم الفرنسيون هزيمةً نكراء، ما زال التاريخُ يذكرُها والأجيالُ تقرؤُها إلى يومنا هذا ثمّ يا له من شعْب!
بعد خروج الفرنسيين، ترهقُهم ذِلّة، عمِلت القِوى الأمبريالية على تقسيم [ڤيتنام] إلى دولتيْن، الأولى في الشّمال وعاصمتها [هانُوي]، والثانية في الجنوب وعاصمتُها [سايْغون]، وأَتَوا بالملِك [باهُودَاي] الذي كان يعيش في منفاه في جنوب [فرنسا] فجعلوه ملكًا لدولة [ڤيتنام] الجنوبية، وكان ملكًا صوريًا فقط، فانقلب عليه [دييم]، وأقامَ ديكتاتوريةً فاسدةً وقمعيةً، لكنّ الزعيم الڤيتنامي [هوشيمين] كان يريد [ڤيتنامًا] موحَّدًا، فصارت [ڤيتنام] الشّمالية تَغِيرُ على [ڤيتنام] الجنوبية، فأرسَل الأمريكان أسلحةً، ومستشارين عسكريين، ولكنّ قوات [ڤيتنام] الجنوبية الفاسدة كانت تُمْنى بالهزائم النّكراء، فتمَّ اغتيالُ [دييم] وشقيقِه، وتولى الجيشُ إدارة البلاد لكنّ الهزائمَ توالتْ، والفسادَ طغى في البلاد، فرأتْ [أمريكا] دخول الحرب في [ڤيتنام]، ولكن كيف؟
ابتدعَت [أمريكا] كذبةً، وادّعتْ أنّ سفينةً ڤيتنامية قصفتِ المدمِّرة الأمريكية [مادوكس] سنة (1965)، وكان ذلك مبرِّرَ [أمريكا] لدخول الحرب مباشرةً، فعاثتْ في البلاد فسادًا، ودمارًا، وقتلاً، وصارت طائرات (B.52) تمطِر [ڤيتنام] بقنابل فتّاكة، وتسْتَعمل [النّابالم]، وتحرق السّكان في قراهم ليلاً، والتاريخُ يذْكُر مجزرة [مايْلي] سنة (1968)، حيث أبيدَتْ ليلاً قريةٌ برمّتها مما يدخُل قانونيًا في جرائم الحرب البشعة فكثّفَ [جياب] هجوماته على الأمريكان، حتى تَعبوا من تلك الحرب، وتوالتِ الاحتجاجات في [أمريكا]، واعتَرف جينرالات أمريكان قائلين: [إنّنا لن نَكسب هذه الحرب]، واقتَرح [ويستمورلاند] قائد القوات الأمريكية في [ڤيتنام] على البيت الأبيض (ڤتْنَمَة الحرب)، أي إنّ الڤيتناميين الجنوبيين عليهم الدّفاعُ لوحْدِهم عن بلدهم، فكانت بداية النّهاية؛ مات الزعيمُ [هوشِيمين] ولم يَشهدْ استقلال بلده حيث مات سنة (1969)؛ وفي سنة (1975) خرجتْ [أمريكا] بدورها وهي تجرّ أذيال الخيبة من [ڤيتنام] الموحّدة، فصار [جياب] رمزًا وطنيًا، كل الشّعب يكنّ له الإجلال والاحترام، وتحرّرت [ڤيتنام] وتوحّدت؛ لكنّ [جياب] رأى أنّ مهمّتَه انتهتْ، وأنّه رجلُ حرب، ورجل ميدان، ولا صلة له بالتّدبير والتّسيير، فتركَ ذلك الأمر لأناس ولخبراء في ذلك؛ واليوم، يفوق دَخْلُ الڤيتنامي دَخْلَ الفرنسي بأربعة أضعاف، واعتُمِدَتِ اللُّغةُ الڤيتناميةُ في المدارس والمعاهدِ وانمحتْ آثارُ الاستعمار من البلاد، وصارت محترَمةً ونموذجًا لكلّ الشُّعوب التّوّاقة إلى الحرية والتّقدّم ونبْذ التّبعية.. مات [جياب] سنة (2013) عن عمرٍ ناهز (102) سنة..