محمد عفري
في زخم تداعيات تعيين حكومة أخنوش، وتسليم السّلط بين أعضائها و”أسلافهم”، وافتتاح الولاية التشريعية الحادية عشرة وانتخاب رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، مرّ الأحد الأخير، الموافق للعاشر من أكتوبر في غفلة من غالبيتنا ودون اهتمام يذكر، على الرغم من أنه يوم عالمي للصحة العقلية والنفسية، وعلى الرغم من أن المغرب معني أكثر من غيره بهذا اليوم، لكونه أصبح بلدا رائدا سلبيا في “الإصابة” بالأمراض العقلية والنفسية، إن لم يكن مرتعا لـ”الحمقى”، ليس بأعداد المصابين بهذه الأمراض المتنوعة فقط، وإنما بغياب منظومة صحية متكاملة خاصة بها.
لا أحد يعاكسني في كون هذا الغياب اللاّإرادي أو المقصود، معنية به المنظومةُ الصحية الوطنية بكاملها، فبالأحرى منظومة الصحة العقلية التي هي جزء منها، بل هي الشق الأصعب والمستعصي فيها، وكامل المسؤولية، والحالة هاته، تتحملها الحكوماتُ المتعاقبة وكل المسؤولين في مراكز القرار. لا أحد يمكنه أيضا أن ينسى أو يتناسى، تَحوُّل المغرب، قبل قرابة سبع سنوات من الآن، إلى وجهة حقوقية وإعلامية ومجتمعية عالمية، ومادة دسمة بين الألسن، ومثار سخرية حتى، حين امتشق الحسين الوردي، وزير الصحة على عهد حكومة بنكيران سيف الجرأة، ليقرر إغلاق الولي الصالح “بويا عمر”، الذي شكل على امتداد عقود، مستشفًى “عشوائيا” وخرافيا للأمراض العقلية، يدخل في باب الطب البديل لكل سقم عقلي ونفسي، بل يؤثِّث لتاريخ مظلم للمغرب في تعامله مع مرضاه العقليين النفسيين، إذ ظل مغرب ما بعد الاستقلال إلى اليوم، عاجزًا عن المواجهة الواجبة لـ”الحُمق” المتنوع الذي نعاني منه، جلُّنا، دون أن يوفر لنا المستشفيات الكافية والموارد البشرية من أطباء وممرضين وأخصائيين، أكثر مما “وفَّر” لنا وضدّا فينا، كل ظروف ومسبِّبات هذا الحُمْق المرتبط بالقلق والتوتر والاضطراب النفسي والاكتئاب والانفصام في الشخصية، حين تغلغلت البطالةُ وسط أبنائنا من حاملي الشهادات، وحين وجد الشبابُ في سنِّ الشغل والنشاط أنفُسَهم بين خيارات الهجرة والشارع والسّجن وقوارب الموت، وحين نال منّا “القهرُ” الاجتماعي في ارتباطه الوثيق بارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وحين تفشّت بيننا المخدراتُ وارتفع معدلُ الإحباط المؤدي إلى الانتحار، واتسعت الهوةُ بين طبقة كادحة، تسعى فقط، إلى العيش الكريم براتب أو أجر شهري زهيد، ومعاش لا يفيد حتى في “شراء حبل” لغاية وحيدة هي الانتحار (على حد تعبير كل مغربي متوتِّر أمام انسداد أفق قريب..)، وطبقات تغتني، يوما بعد يوم، إما بالتهرب الضريبي أو بالتهريب وبأكل السُّحت جهارا بالتهرب من التزامات التغطية الاجتماعية للعاملين، أقلُّها التزامُ صندوق الضمان الاجتماعي وما إلى ذلك.
لا يتجلّى المغربُ الأحمق في عدد الحمقى الذين أُطلِق سراحُهم من الولِي “بويا عمر”، ولا في الذين واجهوا إغلاقه بالنار والحديد، لكونه شكل لهم طوال سنين موردَ معيشةٍ، وهم يسجنون المرضى في بيوت أُعِدَّت للكراء. لا يتجلى المغربُ الأحمق في قول، وزير الصحة، آنذاك، إن عدد المرضى العقليين والنفسيين يبلغ نصف تعداد الساكنة، ولا في قول وزير الصحة الذي خَلَفه، سنة بعد ذلك، (أنس الدكالي) إن العدد لا يتجاوز 42 في المائة من الساكنة، إذ من الحمق والجنون التصديقُ بكون العدد انخفض في ظرف سنة. المغرب الأحمق يتجلى في كون سلطته التنفيذية، قادها رئيسُ حكومة بـ”رتبة” طبيب نفساني، (سعد الدين العثماني)، ومع ذلك لم يجد من حل لمرضنا المستشري، بل لم يجد ما يدافع به عن فشله في توفير استقرار اجتماعي للمغاربة، غير قوله إنّ المغربَ أصبح ” أفضل من فرنسا في المعيش..”. المغرب الأحمق يتجلّى ايضا، في قول وزيرة من نفس حزب رئيس الحكومة ذاته، إن من يوفر عشرين درهما يوميا ليس فقيرا. المغرب الأحمق يتجلى بلغة الأرقام لآخر التقارير في كون 48 في المائة من المغاربة يعانون من مرض نفسي أو عقلي؛ بمعنى شخص من بين اثنين يعاني من اضطراب عقلي أو نفسي. يتجلى أيضا في كون المغرب لا يتوفر إلاّ على 290 طبيبا نفسيا يشتغلون في القطاعين العام والخاص، وهو رقم ضعيف مقارنة بالمعدل العالمي، حيث تؤكد المعاييرُ الدولية، على أن يتوفر 3.66 مختصين لكل 100 ألف نسمة، بينما لا يوفر المغرب سوى أقل من مختص أي 0.85 لكل مائة ألف نسمة. أمّا الأطباء النفسيون المختصون في الأطفال فعددهم خمسة في القطاع العام يرافقهم 1069 ممرضا نفسيا.
المغرب الأحمق يتجلّى في كونه لا يتوفر إلا على 2238 سريرا مخصصا للمرضى النفسيين، أي ما يمثل 0.67 سرير لكل 10 آلاف نسمة، ومع ذلك شنَّفت الأحزابُ الثلاثة التي تقود أغلبيةَ حكومة أخنوش مسامعنا بشعارات ” تستاهل أحسن”، باش نزيدوا القدام” و”الإنصاف الآن”.
نحن في الانتظار.. إمّا مغرب سوي، أو مغرب أكثر حمقًا.