نعلم أن الوزير هو المسؤول الأول عن القطاع الذي يشرف عليه ويدبّـره، ونعلم كذلك أنه هو الذي يعطي الأوامر لتنفيذ الإجراءات القانونية والمالية، بما فيها تنفيذ الأداءات مع ضبط النفقات القطاعية، ونعلم أيضا أن جميع الموضفين في جميع المراتب في الوزارات، بدءا من مدراء الدواوين والمستشارين، مرورا برؤساء المصالح والأقسام وانتهاء عند الكاتب العام، كلهم يأتمرون بأمر الوزير وينفـذون تعليماته، ومع ذلك، جاءت تقارير المجلس الأعلى للحسابات، ومنها التقرير الأخير لتحاسب هذا الموظف بصفته مسؤولا، لكن في غياب محاسبة الوزير عن المسؤولية ذاتها، فأين الخلل إذن ؟
الخلل هو أن مسؤولية الوزير مسؤولية حقيقية، واضحة وراجحة في كفة كل الاختلالات الحاصلة، إلا أن القانون يغطيها بغربال كبير، ليحجبها ويجعل الوزير يلج من ثقوب هذا الغربال، ليعطي الأوامر وينفذ القرارات أو يجعلها تنفّذ بإرادته السياسية في تماه مع سلطته التنفيذية، رغم أن الكثيرمن هذه الأوامر والقرارات يكون خارج القانون.
في الحكومة الحالية هناك وزيرات ووزراء يطلبون من المسؤولين الكبار، أي من مسؤولي الوزارة في الأقسام والمصالح، المعنيين بماليتها، بتنفيذ أوامر خارجة عن القانون، مثل القيام بحجوزات تذاكر السفر الجوي، عالي التكلفة، وحجوزات الإقامة بالفنادق الفخمة المصنفة في خمسة نجوم وغير ذلك، علما أن القانون واضح في هذا الباب، يقطع مع كل ما من شأنه شك في التلاعب أو الهدر، وذلك بمنح الوزير، عبر الميزانيات القطاعية، تعويضات مخصصة عن المهام اليومية ويضمّنها، إضافة إلى ذلك، كل حاجيات التنقل والسفر والإقامة والتكلف بالمهام، وما إلى ذلك.
نعلم كذلك أن مسؤولين ورؤساء أقسام ومدراء وكتاب عامين تنزل عليهم أوامر الوزير عمودية كالصاعقة، وإذا لم يتم تنفيذها أو تباطأ في التنفيذ، يهمّش تهميشا ويتعرض للمضايقة، بل يهدد في منصبه، أي في مورد قوته، وهناك أمور أخرى تجعله يعاني إن لم ينفّذ.
إن مسؤولية المجلس الأعلى للحسابات تتحدد في مراقبة الوثائق مع ملاءمتها مع القوانين وتناقش ملاءمة الأداءات مع المصاريف، إلا أن تفعيل هذه المسؤولية يبقى سياسيا والتلاعب قائما، وما التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات إلا نقطة من بحر الفساد المتجدر والمتنوع، لأن الفساد الإداري يتطور بتطور الإنسان، والفساد المالي بدوره يتطور بتطور اللغات المالية والاقتصادية. لذلك فالمسؤولية لا تقع على المجلس الأعلى للحسابات بقدرما هي تقع على المسؤولين الأساسيين عن هذه الخروقات، إما لعدم درايتهم بالقانون وفهمه، أو لعدم إدراكهم أن الوزارة ليست ضيعة تركها لهم الآباء والأجداد، بل هي مرفق وجب حُسن تدبيره وحكامة تسييره المالي.
تطرق التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات إلى متابعة عدد من المسؤولين، يتحملون المسؤولية بمؤسسات عمومية ومصالح الدولة المسيّرة بطريقة مستقلة، لكن دون أن يشير بالواضح إلى المسؤول الأساسي المعني بالقطاع، فلو كانت المراقبة صارمة تعني هذا المسؤول بدرجة أولى، لما كان هذا التسيب، بمعنى لو كان القانون صارما واضحا لما خضع الموظف المعني بالمحاسبة لإمرة المسؤول الأول في “خرجاته” غير القانونية خصوصا منها المالية.
فالمسؤولية مسؤولية سياسية، لا يجب أن يتم فيها استثناء الوزراء من تحملها، لأن الديمقراطية الحقيقية هي أن تطالهم المحاسبة التي يجب أن تتعدى مسؤولياتهم عن القطاعات إلى باقي المسؤوليات، بداية من الانتخابات.