محمد فارس
الدول الديمقراطية قد تكون ملكية أو جمهورية، لأن الديمقراطية لا تعارض فكرة الملكية لذاتها، وإنما تعارض الملكية الـمُطلقة دون غيرها؛ أما الملكية الدّستورية، ففي وُسعها أن تقومَ جنبًا إلى جنْب مع الحكم الديمُقراطي إن وجِدَ فعلاً، والملكية الإنجليزية أبدعُ مثل لذلك، فإنجلترا بلا مِراء، أَعْرق الدول الديمقراطية، ومع ذلك، فهي تحتفظ بالنظام الملكي، وما تزال في [أوروبا] حتى اليوم، دول ملكية دستورية كثيرة مثل [السويد، والنرويج، والدنمارك، وهولاندا، وبلجيكا]، وقد كان ثمة دُول ملكية دستورية أخرى في أوائل القرن (20)، مثل [ألمانيا، والنّمسا، وإيطاليا]، أما [إسبانيا] فقد زالت فيها الملكية سنة (1930) ثم عادت بعد موت [فرانكو] سنة [1975].. أما الملكية التي زالت قبلاً، فهي الملكية الروسية سنة (1917) ومن سُخرية الأقدار أنّ ملَكية [ألمانيا] هي التي موّلتْ [لينين] لقلبِ النظام في [روسيا] قبل أن يُجْبَر القيصر الألماني [وِيلْهيلم الثّاني] على التّخلي عن العَرش، والذهاب إلى منفاه في [هولاندا]..
إن الملكيات التي خسِرت الحرب العالمية الأولى، صارت هَشة، وبلا سنَد شعبي، ممّا ساعد (مُنظّمات هدْم العروش) على إزالتها بشتى الوسائل؛ ثمّ ملكيات أخرى جاء دورُها وأُزيلت بعد هزيمة [النّازية] في الحرب العالمية الثانية ومن بيْنها ملكية [رومانيا]، و[هانْغاريا]، و[بَلغاريا]؛ وملكيات في العالم العربي اتّهمت بالتعامُل مع الاستعمار مثل الملكية في [تونس]، وفي [مصر].. أما ملَكية [ليبيا] فقد ذهبَ الملكُ [السّنوسي] وبعثَ من [قُبْرص] برسالة استقالتِه، فقفَزَ [القذَّافي] إلى الواجهة واغتنم الفرصة ولم يقُم بانقلاب كما تُروِّج لذلك مصادرُ الكذب وتَزْييف الحقائق؛ أما في [إثيوبيا] فقد كانت الشّيوعية من وراء قلب نظام [هَايْلي سِيلاَسي]، تزعّمه الخِنْزيرُ الشّيوعي [مانْغيسْتُو هَايْلي مارْيا]، ومن أقدَم وأَعْرق الملكيات، المملكة المغربية بلا مُنازع، فصارت متجذّرة في الشعب، وصار الحفاظُ عليها من مُقدّسات الوطن، لأنّها رمْزُ وحْدته وعنوان أصالته..
نعود إلى الدّيمقراطية، فنقول إنّ أفضل نماذجها [الولايات المتحدة، وسويسرا]؛ ولابدّ للدّولة الديمقراطية من دستور يقوم على المبادئ الديمقراطية في تقرير الحقوق والحريات العامة؛ وهذا الدستورُ إما مُدوّن ومكتوب وهو الأغلب، وإما غيْر مُدوّن يقوم في جوهره على طائفة من التقاليد، والسوابق الدستورية؛ والدستورُ الأمريكي هو أول دستور مكتوب، وقد صدَر عَقِبَ حرب الاستقلال سنة (1787)، ويليه الدستورُ الفرنسي، وقد صدَر لأول مرّة في سنة (1791)، ثمّ غُيِّر مرارًا في ظلّ الملكية والجمهورية.. وفي الدّول ذات الدّساتير المكتوبة، يتضمَّن الدّستور فضلاً عن تقرير الحقوق والحريات العامة، كلّ المبادئ المتعلقة بطريقة الحكم، والنظام البرلماني، وحدود السلطات المختلفة، وتَلحَق به قوانين الانتخاب.. ويجدر بنا أن نعترف بأن دستور المملكة المغربية لسنة (2011)، وجدَه خبراء وملاحظون من أهمّ الدساتير العالمية، لكنّه لم يُنزّلْ بشكل كامل وشامل إلى الواقع كما يتمنّى الشعب المغربي، وذلك بسبب أحزاب ليست ديمقراطية في صميمها وفي بنْيَتها، وفي ممارستها؛ بالإضافة إلى رؤساء حكومات لم يتَرَبَّوا في هذه الأحزاب المنافقة على الديمقراطية ووسائل ممارستها؛ فحتى هياكل هذه الأحزاب، وانتخاباتُها الداخلية، لا تخضع للديمُقراطية ولا تَمُتّ إلى أيّ نَهْج ديمقراطي بِصلة، وإنّما تمارسُ الإنتاج وإعادة الإنتاج، ممّا يَجعلُنا نَرى دومًا نفس الوجوه في كلّ استحقاق، وهي أسماء تكرّر نفْسها على مدى سنين طويلة، حتى صارت أحزابًا نَفْعية لا أحزابًا سياسية وديمقراطية؛ لا، بل، تجد هذه الأحزاب تملكُها عائلات، فيتوارثها الأبناءُ عن الآباء باعتبارها مِلْكيةً خاصّة، أو تتوارثُها العائلة أو الّذين يَدُورون في فلكها من مُنافقين، وعَبيد، وخَدَم، وحَشم، ومنتفعين يَكون دخول البرلمان بالنّسبة إليهم غايةً، لا مسؤوليةً أمام الله، والأمّة، والشّعب؛ لهذه الأسباب ظلّ الدُّستور حِبْرًا على ورق في الرّفوف..
وهناك عائقٌ آخر أمام ديمُقراطيتنا، وهي ديمقراطية لم تَسْتلهِم الجوانبَ الإيجابية من ديمقراطية الدول المتقدّمة مثل [أمريكا، وبريطانيا، واليابان] وغيرها، وهذا العائقُ هو كثرة الأحزاب القَزَمية، التي ليس لها إلاّ المقرات كالقُبور الـمُبيَّضة من الخارج كما قال [السّيدُ المسيح] عليه السلام؛ وهذه الكثرة الغثائيةُ كان قدِ انتقَدها وحذّرَ منها جلالة الملك [الحسَن الثاني] طيّب الله ثراه.. لكن الذي يَجْعل هذه الأحزاب تتكاثر كالفِطر، هو الدّعْم المالي الذي تنالُه؛ فلو مُنعَ هذا الدعمُ، ومُنع الدّعْمُ الممنوح لها في الحملات الانتخابية، لاختفتْ هذه الأحزابُ من السّاحة ببلادنا؛ فكل حزب قادر على أن يُنْفق على مرشّحيه من مالِه الخاص، كُتبَ له البقاء، وإنْ كان غيْر قادِر، حلّ نفْسه، وكفا خَزينَة الدّولة هذا العِبْء الثّقيل؛ مع العِلم أنّ مال الأُمة وديعة الله، وللوديعة حُرُماتُها.. وصدَق من قال:
أيّ شيء نراهُ دَاء عُضالاَ * مثْل ما في البلادِ من أحزابِ
نحنُ ما بيْن إخواني دَعِيٍّ * ومُتَحزِّبٍ جَهُول ومُعانِدٍ كَذّابِ
فرقُوا الأُمّةَ ثمّ جاؤُوا بشَيْء * ليْس في فلسفةٍ ولاَ في كِتابِ.