فضحت أزمة الجفاف الحادة، وغلاء الأسعار، والاحتجاجات الاجتماعية في القرى، ضعف الاداء الحكومي حيث يعيش المغرب على وقع أزمة مركبة، تعري واقع السياسات الفلاحية والبحرية، وتكشف تواطؤ المصالح بين بعض الأحزاب النافذة واللوبيات الاقتصادية، في مشهد يُبعد البلاد أكثر عن أي أفق لتحقيق السيادة الغذائية المنشودة.
في مداخلة قوية بمجلس النواب، دعت النائبة فريدة خنيتي عن حزب التقدم والاشتراكية إلى القطع مع الزراعات المستنزفة للماء، والتحول نحو خيارات زراعية أكثر عدالة واستدامة. ولفتت إلى المعاناة المتواصلة لفئات واسعة من الفلاحين الصغار الذين لا يجدون ماء للسقي إلا بعد احتجاجات، فيما تُوجه المياه بسخاء لكبار المستثمرين الزراعيين.
لكن وراء هذا المشهد الاجتماعي القاتم، طفت إلى السطح فضائح تثبت أن الأزمة ليست طبيعية فقط، بل لها أسباب سياسية واقتصادية بنيوية، من أبرزها ما بات يُعرف إعلاميًا بـ”فضيحة الرخويات”، والتي كشفت عن شبهات اختلاس وتلاعبات خطيرة في تدبير ثروات المغرب البحرية.
وتعود تفاصيل الفضيحة إلى اتهامات وبلاغات رسمية أشارت إلى استنزاف ثروات بحرية هائلة، خاصة في الجنوب المغربي، حيث يتم صيد الرخويات بكميات كبيرة خارج الضوابط القانونية. وقد اتُّهِمت بعض الشركات المحظوظة بخرق قوانين الصيد وتصدير المنتوجات بطرق ملتوية، بتواطؤ مع مسؤولين سابقين وحاليين.
المثير أن هذه الشركات مرتبطة بشخصيات سياسية تنتمي إلى أحزاب نافذة في الحكومة، أبرزها حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يقوده رئيس الحكومة عزيز أخنوش، وحزب الأصالة والمعاصرة، الذي يتولى عدة حقائب وزارية حساسة. بل إن بعض البرلمانيين الذين دافعوا عن هذه الشركات داخل البرلمان، يمتلكون حصصا مباشرة أو غير مباشرة فيها، ما يطرح شبهة تضارب مصالح.
في المقابل، ورغم كل الشعارات حول محاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة، لم يُفتح أي تحقيق قضائي مستقل في هذه الفضيحة التي كلفت خزينة الدولة مئات الملايين من الدراهم، وحرمت السوق الوطنية من كميات كبيرة من المنتجات البحرية، ما ساهم في ارتفاع أسعار السمك.
على المستوى الزراعي، لا تزال الحكومة تتبنى نفس مقاربة “المغرب الأخضر”، رغم الانتقادات الموجهة إليها، والتي تقول إنها عززت التمييز بين الفلاحين، وفتحت المجال أمام الاحتكار والتصدير المفرط، دون مراعاة أمن المواطنين الغذائي.
فالخضروات تُصدر، والحبوب تُستورد، والأسماك تُباع بالخارج بأسعار زهيدة، ثم يُعاد بيعها في السوق المحلية بأسعار تفوق قدرة المواطن. ويجد المواطن البسيط نفسه محرومًا من أبسط مقومات السيادة الغذائية، رغم أن المغرب يملك موارد فلاحية وبحرية هائلة.
و اللافت في كل هذا، هو صمت الأحزاب المشاركة في الحكومة، وعلى رأسها التجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والاستقلال، والتي اختارت الدفاع عن مراكز النفوذ الاقتصادية بدل الدفاع عن الفلاح الصغير والكساب والمستهلك.
حتى الأحزاب التي يفترض أنها معارضة، لم تخرج بمواقف قوية تفضح هذا التلاعب أو تطالب بتحقيق جدي في ملف الرخويات. وهذا ما يُغذي شعورًا عامًا بـ”التحالف غير المعلن” بين السياسيين والفاعلين الاقتصاديين الكبار، على حساب المصلحة العامة.
و في ظل هذه الوضعية، لا يمكن الحديث عن تنمية قروية أو عدالة اجتماعية دون إعادة النظر جذريًا في من يتحكم في السياسات الفلاحية والبحرية، ومن المستفيد من الدعم العمومي، ومن المسؤول عن تهميش ملايين الفلاحين ومربي الماشية والصيادين.
إن المغرب اليوم بحاجة إلى ثورة سياسية ومؤسساتية حقيقية في تدبير الثروات الطبيعية، تضع السيادة الغذائية والعدالة المجالية في صلب اهتماماتها، قبل أن يصبح الأمن الغذائي رهينة للأزمات الخارجية والمصالح الضيقة.