محمد فارس
كان [عبد الله بن مسعود] سادِس ستّة أسلموا، هو إذن من الأوائل المبكِّرين؛ لقدِ انبهر [عبد الله بن مسعود] حين رأى عبد الله الصالح ورسوله الأمين، يدعو ربّه، ويمسَح ضرعًا لا عهْد له باللّبن بعد، فإذا هو يُعْطي من خير الله ورزقه لبنًا خالصًا للشاربين، وكان [ابن مسعود] غُلاما يرْعى غنم [عقبة بن أبي معيط]، فجاء النبيُّ عليه السلام وَ[أبو بكر]، فقالا: يا غُلام، هل عندك من لبن تسْقينا.. بل ما كان يَدْري يومها، أنّه وهو ذلك الغلام الفقير، الضعيف، الأجير، راعي الغنم، سيكون إحدى المعجزات، يوم يخلق الإسلامُ منه مؤمنا، يهزِم بإيمانه كبْرياء (قريْش)، ويَقْهر جبروت سادتها.. يذهب، وهو الذي لم يكُن يجرؤ أن يمرَّ بمجلس فيه أحد أشراف [مكة] إلا مطرق الرأس، حثيث الخُطى؛ يذهبُ بعد إسلامه إلى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات (قريش) وزعمائها هنالك جالسون، فيقف على رؤوسهم، ويرفع صوته الحُلْو، المثير بقرآن الله: [بسم الله الرحمان الرحيم، الرّحمانُ علم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان، الشّمس والقمر بحُسْبان، والنجم والشجرُ يسْجدان]، ثم يواصل قراءتَه، وزُعماء (قريش) مشدوهون، لا يصدّقون أعينَهم التي ترى، و لا آذانَهم التي تَسْمَع، ولنَدعْ شاهدَ عيان يصف لنا المشاهد:
إنّه [الزبير] رضي الله عنه، يقول: [كان أول من جهَر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمكة [عبد الله بن مسعود] رضي الله عنه، إذِ اجتمع يومًا أصحابُ رسول الله، فقالوا: [والله ما سمِعتْ (قريشُ) هذا القرآن يُجهَر لها به قطّ؛ فمَنْ رجلٌ يُسْمِعْهُمُوه؟]؛ فقال [عبد الله بن مسعود]: [أنا..]؛ قالوا: [إنا نَخشاهُم عليك، إنّما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونَه من القوم إن أرادوه.]؛ قال: [دعُوني، فإن الله سيمْنَعني]، فغَدا [ابن مسعود] حتى أتى المقام، و(قريش) في أنديتها، فقام ثمّ قرأ: [بسم الله الرحمان الرحيم، الرحمان، علم القرآن..] ثم استقبلهم يقرؤُها؛ فقاموا إليه، وجعلوا يَضربون وجْهَه، وهو ماضٍ في قراءته حتى بلَغَ منها ما شاء الله له أن يَبْلغ.
يقول [ابن مسعود] عن نفسه: [أخذتُ من فمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد].. ويقول الرسول عليه السلام: [مَن أحبّ أن يسْمع القرآنَ غضّا كما أُنزِل، فليسْمَعْه من ابن أُمِّ عبد]؛ هكذا كان يناديه النبي الكريم: [ابنُ أمِّ عَبْد].. ويقول [ابن مسعود] أيضًا: [لو سألتني عن أيِّ آية، متى، وأين، وفي ما أُنزِلتْ، لأخبرتُكَ..].. ويقول فيه [حُذَيْفَة بنُ اليمان]: [ما رأيتُ أحدًا أشْبه برسول الله في هدْيِه، ودلِّه، وسَمْتِه من (ابن مسعود)]. كان [ابن مسعود] يطرق باب الرسول عليه السلام في أيّ وقت يشاء من ليل أو نهار؛ وهكذا، قال عنه أصحابُه: [كان يؤذن له إذا حُجِبْنا، ويَشهَدُ إذا غِبْنا]؛ ولقد كان [ابن مسعود] أهلاً لهذه المزِيّة، فالرجل عاصَر النّبي الكريم أكثر من غيْره، وكان إدراكُه لجلالِ هذا الرسول العظيم إدْراكًا سديدًا، ومن ثمّ كان أدبُه معه في حياته، ومع ذِكراه في مماته، أدبًا فريدًا، لم يكنْ يفارقه في سفر، ولا في خطر؛ لقد شهِد المشاهد كلّها، والغزوات جميعها، وكان له يوم (بدْر) شأن مذكور مع [أبي جهْل]..
عُزل [ابن مسعود] عن ولاية [الكوفة]، ولـمّا عاد إلى [المدينة]، دخل المسجد، فقال أحدُهم: [لقد دخلتْ علينا دُوْبَةُ سُوء]؛ فقال [ابن مسعود]: [والله ما أنا بِدُوبة سُوء؛ لقد شهِدْت المشاهد كلّها مع رسول الله، ولم أتخلّف، ولم أفرّْ أبدًا..]، وقد كان يرمُز لِلّذين تخلّفوا يوم (بدْر)، وفرُّوا يوم (أُحُد)، وقبل أن ينهي كلامه، رفعَه [مروان بن الحكم] على كتفه، ثم ضرب به الأرضَ، فدُقّتْ عظامُه وصاحبتْه الآلامُ إلى يوم مماته؛ ثم حُجِبَ راتبُه ومعاشُه من بيت المال، ومع ذلك ظل صابرًا لِـما أصابه بعد تحكّم الأمويين في شؤون الدولة وأموالها. هذا هو الرجل الذي كان جسْمه في حجم العصفور، نحيف، قصير، يكاد الجالِسُ يوازيه طولاً وهو قائم، له ساقان ناحِلتان، صعد بهما يوما أعلى شجرة يجْتَني منها أَراكًا لرسول الله، فرأى أصحابُ النّبي دِقّتها، فضحِكوا، فقال عليه الصلاةُ والسلام: [تضْحكون من ساقيْ (ابن مسعود)، لهُما أثْقل في الميزان عند الله من جبلِ (أُحد)].. خاضَ [ابن مسعود] المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع خلفائه من بعده، وشهِد أعظم إمبراطوريتيْن في عالمه وعصْره تفتحان أبوابهما خاشعةً لرايات الإسلام ومشيئته.. رأى المناصب تبحث عن شاغليها، ورأى الأموال الوفيرة تَتَدحْرجُ نحْو كانِزيها، فما شغله شيء من ذلك، بل بقي على عهده لرسول الله، إنّه رجلٌ هداه الله؛ ورباه الرسول؛ وقادهُ القرآن..