كشفت المناظرة الوطنية الأولى حول “تدبير منازعات الدولة والوقاية منها، مدخل لصون المشروعية واستقرار الاستثمار وترشيد النفقات العمومية”، بمشاركة رفيعة المستوى ضمت مسؤولين قضائيين وحكوميين، في خطوة تهدف إلى بلورة رؤية استراتيجية شاملة لمعالجة إشكاليات المنازعات القضائية التي تواجه الدولة ومؤسساتها.
و أكد محمد عبد النباوي، الرئيس الأول لمحكمة النقض والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، في كلمة ألقاها نيابة عنه الأمين العام للمجلس، منير المنتصر بالله، أن المجلس شرع في تنفيذ رؤية استراتيجية تهدف إلى تجويد العمل القضائي في المادة الإدارية، انطلاقًا من موقعه كشريك أساسي في ترسيخ دولة القانون.
وأشار إلى أن القضاء الإداري يعاني من تحديات كبرى، أبرزها غياب الاستقرار القانوني وتعدد التأويلات وطول أمد التقاضي، ما ينعكس سلبًا على جاذبية المملكة للاستثمار، لاسيما في المشاريع الكبرى. ودعا عبد النباوي إلى تعزيز التخصص القضائي في المادة الإدارية، ونشر الاجتهادات القضائية النموذجية لترسيخ الأمن القانوني وتوجيه الإدارة نحو أفضل الممارسات.
وفي هذا السياق، نوّه بإطلاق المنصة الرقمية “مواكبة” ومركز النداء القانوني كآليات فعالة لتوفير المشورة القانونية قبل وقوع النزاع، بما يمثل تحولاً جذريًا نحو الوقاية القانونية بدل الاقتصار على الدفاع بعد وقوع الضرر.
وكشف عبد النباوي أن الدولة طرف في حوالي 60 ألف قضية سنوياً، معظمها متعلقة بالمسؤولية الإدارية والعقود والاستثمارات، موضحًا أن تأخر وصول ثلثي هذه القضايا إلى الوكالة القضائية للمملكة يؤدي إلى خسائر مالية كبيرة بلغت 3.5 مليار درهم في عام 2023 فقط.
و شدد الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، فوزي لقجع، على أهمية وضع خارطة طريق دقيقة لتدبير منازعات الدولة، بما يضمن التوازن بين تشجيع الاستثمار وحماية مصالح الدولة والمؤسسات العمومية.
وأشار لقجع إلى أن الكلفة المالية للمنازعات بلغت 5.4 مليار درهم خلال سنة 2023، وتوزعت على قضايا نزع الملكية والمسؤولية الإدارية والصفقات العمومية، مؤكداً أن هذه الأرقام تؤشر على ضرورة إصلاح عميق للمنظومة.
وأوصى الوزير باعتماد إجراءات موحدة، ونماذج معيارية للعقود ودفاتر التحملات، وتوسيع اللجوء إلى الوساطة والتحكيم، مع التركيز على رفع كفاءة الموارد البشرية القانونية وتعزيز الوقاية من النزاعات كخيار استراتيجي.
و أكد وزير العدل عبد اللطيف وهبي، في كلمة ألقاها الكاتب العام للوزارة عبد الرحيم مياد، أن تعزيز تكوين العاملين في مجال تدبير المنازعات يشكل حجر الزاوية في استراتيجية الدولة لتقليص النزاعات المكلفة.
ولفت إلى أن ضعف الكفاءة الإدارية وغياب الرؤية الاستباقية يسهمان في تفاقم النزاعات، داعياً إلى تبني مناهج عصرية لإدارة المرفق العمومي، تقوم على الحكامة الرشيدة وترشيد النفقات، في ظل بيئة وطنية ودولية متغيرة.
وفي مداخلة وُصفت بالقوية، دعا رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، محمد بنعليلو، إلى اعتماد مقاربة استباقية قوامها المشروعية والشفافية في تدبير المنازعات، محذرًا من خطورة التعقيد القانوني وغياب النصوص التشريعية، وما يترتب عنه من تضارب في التأويلات القانونية وغموض يفتح الباب أمام التعسف الإداري.
وأكد بنعليلو أن غياب “الوعي الارتفاقي” في العلاقة بين الإدارة والمواطنين يؤدي إلى ضعف جودة الخدمات العامة وفقدان الثقة في المؤسسات، داعيًا إلى إحداث مرصد وطني لمنازعات الدولة لتشخيص الأسباب وتقديم حلول وقائية، وتعزيز آليات بديلة كوسائل فعالة لحل النزاعات دون اللجوء إلى القضاء.
المناظرة، التي تستمر على مدى يومين، شكلت لحظة وعي جماعي بأهمية الانتقال من منطق رد الفعل إلى مقاربة استباقية شاملة، قوامها اليقظة القانونية، التنسيق بين الإدارات، وتجويد الأداء الإداري والقضائي. وعبّر المشاركون عن أملهم في أن تُفضي المناقشات إلى توصيات عملية قابلة للتنفيذ، تكرّس دولة الحق وتحمي المال العام وتُحصّن بيئة الاستثمار.
المغرب، اليوم، أمام فرصة تاريخية لإحداث قطيعة مع الأساليب التقليدية في تدبير منازعات الدولة، والانخراط في مسار إصلاحي جاد يعزز ثقة المواطن والمستثمر، ويكرّس مبدأ المشروعية كرافعة أساسية للحكامة والتنمية.