محمد فارس
الرُّقعة لا تكفي، والذكرى للغليل لا تشفي، والتّبرير والأعذارُ من الذّنب لا تعفي، فكيف لي أن أنسى تاريخَ تلفزة كانت بالأمس مفيدة، وكانت للوعي والعلم والمعرفة حفيدة، وفي التّثقيف والأخبار الصادقة كانت لها عقيدة؟ أمّا في ميدان الفن والترفيه الإيجابي، فكانت لها مواقف عديدة قبل أن تستولي على التلفزة عقلياتٌ جديدة، وتصبح لا حِسَّ فيها ولا حياةَ وكأنّها حديدة.. مضى معشَر المشاهدين، زمن الجدّ، وجُعِل للإبداع حَدّ، وجاء زمنُ [الهيْطة، والزّيطة، والشّطيح، والرّديح] ثمّ استجوابُ المهرِّج الصّاعد، والفنّانة التّافهة ذات المستقبل (الواعد). مضى زمنُ المسلسلات التاريخية، والبرامج التّوعوية طيلة الأمسيات الرّمضانية، وحلّت مكانها حلقاتٌ تَضْبيعية، ومسابقاتٌ صبيانية.. مضى زمنُ الفنون الجميلة، وانتشرتْ فنون العيون الكحيلة.. مضى زمنُ المحاكمات الأدبية، وأتى زمنُ حِصص الولائم المأْدُبية.. دقّتْ ساعةُ برامج التّعمية، ولّى عهدُ برامج التّوعية، وحَلّ زمنُ الحصص المسمومة، ودبّتْ سمومُها في الأوعية، وتعالت صيحاتُ الاستنكار المطالبة بالمبرامج النوعية، لكن لا في [إتم] ولا في [دوزيم]، ولا في غيْرهما من [الخُورْدات] مَن يستطيع تغيير الوضع ولو بقدر أُوقية.. فالتّلفزة اكتُسِحتْ بموظّفين، لا بخبراء ممّا أزّم الوضعية..
وخلال برامج التّسلية المجّانية، تقدَّم الأغنية مصحوبة بواو المَعية: نستمع وإيّاكم للفنّانة المشرية، في عَيْطة مَخزية، فما أمتعَ الجلسة العائلية، ومتابعة السّهرات الرّمضانية على شاشة تلفزة شقية، تأكل سحتًا أموال أمّة، وتضحكُ على ذقون المغاربة رغم ما يسبق برامجها التّافهة من إعلانات إشهارية.. مضَتِ الجلساتُ التّلفزية، الفلسفية والأدبية والثّقافية والدّينية، وصارتِ الشخصيات الفكرية من الظّهور على شاشتهم البائسة معفية.. تناسلت الحصصُ المَجّانية، ومسابقات صبيانية ينال الفائزون فيها مبالغ مِليونية.. ثم إشهارات بايْخة، ترى فيها نسوةً تحكين تجاربهنّ مع مسحوق [كذا] وصابون [كيتْ] يجعل الأواني تَلمع، في حين لم نَجِدْ مسحوقًا ينظِّف غسيلَ هذه القنوات التي ابتُليَ بها المجتمع.. وما أكثرَ الأوساخ، لكنّ التلفزة تعمل على تضبيع ساكِني الأكواخ.. ثم صاحبة وليمة، تستدعي الطّباخة [حليمة] لتضْحكَ على الذّقون في التلفزيون بوجبة (الأرز بِالْقيمْرون) متناسيةً الأحوال الأليمة.. ثم تنصح تلفزةُ [والو] المشاهدين قائلةً: [نوِّعْ غِذاءَك، تَسْلم صحّتك]؛ ثمّ برامج رياضية، تخفِّف من وطأة الإخفاق، قائلة إنّ المهمّ هو الآفاق..
أين مضى ذلك الزّمن الجميل؟ أين المحاكمات الأدبية، كان الفنّان القديرُ [عبد المجيد مجذوب] يلعب فيها بمِهنية أدوارًا بطولية؟ كانت تلك الحلقات تشدُّ حتى أنظار النّاس العاديين، وكانت تستهوي الطّلبةَ والتّلاميذ وكلّ المشاهدين.. فأين من معلومات قيّمة، وأين من لغة راقية، وأين من فنّية في الأداء، وأين من معرفة بأعلامها الأجلاء؟ إلى جانب سلامة النّطق والفصاحة بواسطة ممثّلين أكفاء.. أين نحن من محاكمات [العقاد، وطه حسين، والمازيِني، وشارل ديكنْز، وبرنارد شُو]؟ هل تذكر جلسات ممتعة مع أدباء، وعلماء من أمثال [المهدي المنجرة، والمهدي بنعبود] في سابق العهود؟ قبل أن تصاب التلفزةُ بأمراض، ويشلُّها الركود، وتصاب بالتعنّت والجحود، وتصير ضحيةً لممثّلٍ أُمّي، ومخرج عامّي؟
تلفزة تعرّضَت للمُكْسَكة، فكانت تستورد مسلسلات مكسيكية، تتضمّن إيحاءات جنسية وخيانات زوجية، ثم اسْأل عن أثمانها كم هي؟ ثم قفزتْ تلفزتُنا إلى مرحلة التّتريك، فصارتْ تستورد مسلسلات عَلْمانية منافية لأصالتنا وأخلاقنا المغربية.. صارت المسلسلاتُ المجّانية يُبْحث عنها في كلّ المزابل الأجنبية؛ وماذا تفعل مع تلفزة لا تقيم وزنًا للجماهير المغربية؟ جماهير ارتفع مستوى وعيها عكْس تلفزة ظلتْ بلا تغيير كما هي.. أين نحن من مسلسلات تاريخية، وسيرة نبوية، تحلو مشاهدتُها طيلة اللّيالي الرّمضانية؟ أين نحن باللّغة العربية، في رواية أدبية محبوكة، وعقدة نَتلهَّف لمعرفتها، فنوسِّع الخيالَ عسانا نتصوّر نهايتها، ونستشفّ غايتَها؟ ثم ماذا؟ أين نحن من حِصص (رجال اللّيل) نطّلع على متاعبهم، ومشاكلهم، وما يعانونه من أصناف الويل، وعرقٍ يتصبّب كالسّيل؟ التلفزة التي نريدها تحتاج إلى خبراء، لا إلى موظّفين في الإعلام، وتعيينات لأُناس بلا خبرة، ولا خيال، ولا إلمام..