محمد فارس
إذا أردنا من كلمة الأخلاق دوامُ الاحتفاظ بما اصطلحَ العمومُ على مراعاتِه وقمْع النّفس عن الاسترسال مع نَزعات حبِّ الذّات والمصلحة الشّخصية، فليست زُمرة النّواب والمستشارين أهلاً لشيء من ذلك لشدّة نَزقها وعدم ثباتها على المبادئ؛ وقوةُ الأمّة تقوم على تغليب المصلحة العامة على المصالح الشخصية الضّيقة كتلكَ التي يدافع عنها نوابٌ كان من المفروض فيهم أن يُمثّلوا شعبهم، ويدافعوا عن مصالح مواطنيهم، وعندما يزول هذ المثَل الأعلى الجمعي من سياسة وسلوك وأخلاق النائب والمستشار، فلا يَنظر هؤلاء النّواب إلاّ لمصلحتهم الذّاتية، وفوائدهِم الشخصية، ولا يَشعرون بأيّ حافزٍ إلى التّضحية من أجل مصالح الأمّة، بل تراهم يُضَحّون من أجل منافعَ خارجة عن إطار مصالح الأمّة الأساسية، وقد كانت هذه هي حالُ الرّومان حينما كانت جيوشهم مؤلَّفة من مرتزقة البرابرة، هكذا كان يسمّى كل من ليس أصلُه رومانيًا وقْتَها، وقد يجوز أن نُطلقه اليوم على كلِّ من يَخدمون مصالحهم الشّخصية من خلال تواجُدِهم في القبّتين حيث يُسَمَّون: (نوّاب الأمّة)، والواقعُ يؤكّد أنّ هذه التّسمية لا تنطبق عليهم إطلاقًا بدليل أنّ الأمةَ تَبغضُهم لأفعالِهم..
هذا يَطرح حتْمًا مقولةَ [الضمير]، والضميرُ منه الضّميرُ الشّخصي، والضّمير المهني، والضميرُ السّياسي، وإذا راحَ الضميرُ، صارت الأمّةُ في خبر كان، لأنّ الضّمير مرتبطٌ ارتباطًا عُضويًا بالأخلاق والدّين والرّوح الوطنية، ومن العيب أن تَخلُو نفْسُ أيِّ مواطن، أو موظّف، أو جندي، أو عامِل، أو سياسي من هذا الضمير، فهؤلاء كلّهم إذا كانوا بلا ضمير، فلا يساوون جناحَ بعوضة وإنْ تَوهّموا أيّة قيمة بمعزَل عن هذا الضّمير؛ لكن ما هو [الضميرُ] يا تُرى؟ الضميرُ استعدادٌ نفسيٌ لإدراك الحسَن والقبيح من الأفعال، مصحوب بالقدرة على إصدار أحكام أخلاقية مباشرة على قيمة بعض الأفعال الفردية، ويُطلق أيضًا على الملَكة التي تحدّد موقفَ المرء إزاء سلوكه، أو تتنبّأ بما يترتّب على السّلوك من نتائج أدبية واجتماعية كتوزيع النّواب بيْنَهم ملايير الخزينة عند تصفية ملف تقاعدهم، وطبْعهم كُتبًا بالملايين من أموال الأمّة، وإصرار المستشارين على تقاعُد لا حقَّ لهم فيه..
والضّمير إذا تضمّن حكمًا على أفعال المستقبل، كان صوتًا داخليًا آمِرًا أو ناهيًا؛ قال [جان جاك روسو]: [الضميرُ صَوْت النّفس، والهوى صوتُ الجسد]، وقال أيضًا: [لوْلاكَ أيّها الضمير، لما وجدتُ في نفسي ما يَرفعني على الحيوان، إلاّ شعُوري المؤلِم بالانتقال من ضَلالٍ إلى ضلال، بمعونة ذهنٍ لا قاعدَة له، وعَقْلٍ لا مبدأَ له].. ويُطلق اصطلاحُ (الضمير المطمِئنّ) أو (الضمير الحسَن) أي [Bonne conscience] على شعور المرء بأنّه لم يأْتِ فعلاً يستحقّ عليه الّلوم، ولكنّ النّوابَ والمستشارين هم اليوم عرضة للانتقاد، وهدفٌ لكلّ أشكال اللّوم والتّقريع، ولعلّهم يَشعرون، وهم يَسمعون هذا اللّوم، ويقرؤُون الصّحف، يَشعرون بما يسمّى (شقاء الضّمير) أي [Malheur de la conscience] أو (الضمير المؤْلم) كما يسمّيه [هيْغَل]؛ هذا إذا كان لهم ضميرٌ أصلا بدليل أنّهم يَسمعون ولا ينتهون أو يعتذرون، لأنّ ضالّتهم وهدفَهم [المنفعة]، وتحقيقُها ولو على حساب شَرفهم وكرامتهم..
لعلّ من أبرز الفلاسفة الذين ناقشوا (المنفعة): [اسْتيوارت مِيل]، وهذا الفيلسوف يقدّم مفهوم المنفعة العامة على مَفهوم المنفعة الخاصة، ويَستنبِط من هذه المقدّمات كلّها فلسفةً أخلاقية تُعْلي من قيمة الفضائل المجرَّدة.. والعقلاءُ يقول [استيوارتْ مِيل] يفضّلون المنفعة الشّريفةَ على المنفعة الخسِّيسة؛ وإذا قيل لهؤلاء العقلاء: [ذو العقل يَشقى في النعيم بعقله]، أجابهم النّوابُ والمستشارون بأن النائبَ الحقيقي هو من يَدخل البرلمانَ ببطنِه لمَلْءِ جيبِه، ولكن الفلاسفة يقولون بصريح العبارة: [خير للإنسان أن يكونَ عاقلاً ساخطًا، أو عالـمًا شقيًا، من أن يكون شَبْعانًا راضيًا أو جاهلاً سعيدًا].. ولكن هيهات من أن يَفهم العوام هذا الكلام في كتبٍ تتضمّن فكرًا، وفلسفةً، وعلْمًا، وهي كتبٌ أهمُّ من الكتب التي طبعَها النّوابُ بالملايين من أموال الشعب، وهي كتبٌ بها علْمٌ لا يَنفع؛ وأعوذ بالله من عِلْمٍ لا يَنفع، ومن عَيْـنٍ لا تَدْمع، ومن قلْب لا يَخشَع…